عسكرة الدولة: قليل يُجزي وكثيرُ يُؤذي

عسكرة الدولة: قليل يُجزي وكثيرُ يُؤذي

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

new-article2_7-11-2016

تحويل جموع الشعب إلى عسكريين معظمهم غير نظاميين وقعت فيه الكثير من الدول لأسباب عدة، منها مقاومة المستعمر كما في الحرب الجزائرية الفرنسية، ومنها ما هو صراع طوائف كما في لبنان والصومال وأفغانستان والسودان، وفي جميع الحالات السابقة وغيرها تفضي إلى بناء جيلا مقاتلا له قيادات خارج شرعية الدولة ترفض التنازل عن السلاح حتى بعد الوصول إلى حلول سياسية.

باب عسكرة الجموع في ليبيا يمتد لتاريخ طويل جله كان لمقاومة المستعمر، وبحكم اتساع الرقعة الجغرافية وضعف الدولة سوء في العهد العثماني أو الإيطالي، كانت المجموعات المقاتلة محلية جهوية في معظمها، بل التقاتل قد يغير مساره ليصبح داخليا بين أبناء الوطن الواحد، مما أنهك البلاد وحد من فرص التنمية العمرانية، لقرون عديدة.

عسكرة الشباب القادر على حمل السلاح كان جليا بعد انقلاب 69، حيث لم يفكر الضباط القائمين بالانقلاب من أول وهلة إلا في تحويل أراضي كثيرة وأملاك خاصة إلى معسكرات، واشتغلت آلة التوجيه المعنوي الإعلامية لتجنيد ألاف من أبناء الفقراء، وأبناء القرى المهمشة وأبناء الضواحي، وخاصة القرى المحاذية لطرابلس وبنغازي، ونتائج ذلك ما نراه الآن من توثر لهذه المناطق. كما فُرض التدريب العسكري العام على الموظفين منذ سنة 1973م، تلا ذلك فتح كليات عسكرية كثيرة تعج بألاف من الطلبة، وآلاف أخرى تم توجيهها إلى الثانويات العسكرية ومئات ثم إرسالهم إلى الدول الشيوعية وفي قري عسكرية نائية مثل كازان في روسيا وبرنو في تشيكا وغيرها.

بسبب هذا الكم الهائل من العسكر أسند إلى شركة إنتربرايز الإيطالية مهمة بناء عشرات المعسكرات على أسس حديثة في كل ربوع ليبيا، وهي أطلال يسكنها الحمام حاليا بعد تبديد المليارات في بنائها. تلا هذه الحقبة هزيمة الجيش الليبي على الحدود المصرية وفي تشاد مما أوجد مبررا لتقزيمه ثم إهماله والتحول لبناء الكتائب الأمنية، فنتج عن ذلك ما نراه مما يزيد عن 30 ألف ضابط برتب عالية (مقدم وعقيد وعميد) وعدد قليل من الرتب الصغرى مثل الملازم والنقيب والرائد، وهو خلل يحتاج إلى معالجة.

بعد انتفاضة السابع عشر من فبراير، وجليا بعد احتدام الصراع السياسي في منتصف 2013م  توقفت مؤسسات الدولة عن العمل وتعطلت برامج التنمية وخرجت الشركات الأجنبية من البلاد، وانحسر مجال القطاع الخاص،  ورفض أو استحقر مئات الآلاف المحالين خارج الخدمة وموظفو الدولة أجورهم الزهيدة، مع رواج ثقافة استهجان المهن والعمل الفني وغياب التدريب والتأهيل، كان السبيل الوحيد المجزي ماديا ومعنويا بالانضمام إلى التشكيلات العسكرية بشتى مشاربها وانتماءاتها وتبعيتها للمدينة أو الجهة أو القبيلة أو حتى الخاصة، التابعة لأيديولوجيات إسلامية أو التابعة لدول عربية تنفق عليها بسخاء.

ما يغري الشباب للانخراط إلى المجموعات العسكرية سابقا وحاليا، المزايا والمرتبات العالية، فتارة يتم إغرائهم بدورات تدريبية في الخارج مثل بريطانيا وإيطاليا ومصر والأردن والسودان، وتارة تُملك لهم السيارات، ناهيك عن مرتب لمستجد كان عاطلا عن العمل فأصبح ما يتقاضاه ضعف مرتب أستاذ جامعي أمضي 30 سنة في عمله حسب نظام الرواتب بالدولة الليبية. وآخر ما قام به حفتر إنشاء منظومة حسابات عسكرية في الشرق الليبي وتعديل روتب منتسبيه خارج نظام الدولة.

المعالجة الفئوية للمرتبات ليست بجديدة، ففي عهد القذافي استطاع أعضاء هيئة التدريس بالجامعات تعديل مرتباتهم خارج نظام مرتبات الدولة، ثم تلا ذلك قطاع النفط، مما عمل على تكدس الموظفين بيهما بلا مبرر ولا مراعات للكفاءة ولا لمعدلات الأداء، ثم تعديل المرتبات في كل من المصرف المركزي وديوان المحاسبة، وأخيرا سلك القضاء، ليخلق تنازع شديد على الانخراط لهذه المؤسسات، وعدم وجود عدالة ومساواة في منظومة الرواتب بالدولة.

عسكرة الدولة لها مآخذ كثيرة على الأفراد وعلى الدولة، فعلى مستوى الدولة، الزج بألاف الشباب في معسكرات لا فائدة حقيقة للدولة، وتعطيل هؤلاء عن أداء مهامهم في المشاركة في التنمية والإنتاج، وبذلك يتم الاعتماد على العنصر الأجنبي في جميع مناحي الحياة، فالجيش مع ضرورته لحماية الوطن، هو مؤسسة غير منتجة، بل هي مؤسسة استهلاكية لمقدرات الدولة، وكلما كان عددها قليلا وتجهيزاتها عالية كلما كانت فاعلة مع محدودية الإنفاق عليها.

في وجود الأيديولوجيات العابرة للقارات يتم استقطاب هؤلاء المقاتلين الذين أدمنوا حمل السلاح والدخول بهم في حروب كثيرة خاسرة مثل مشاركة الليبيين في أفغانستان (الذين أسقطوا الاتحاد السوفيتي لصالح أمريكا) وحرب العراق وسوريا الطائفية، وأخيرا حرب الدواعش في سرت.

وعلى المستوى المحلي عسكرة الدولة، يؤدي إلى تشظي بعض السرايا والكتائب بسبب تطاحنها أو نقص التمويل عنها، فتقوم بمد المجموعات الخارجة عن القانون بمقاتلين مجرمين لا أخلاق لهم، كما يحدث على الطريق الساحلي غرب طرابلس، والطريق الجنوبي لها، وكذلك جنوب سبها، وفي بنغازي حيث تنتشر المجموعات المقاتلة الخارجة عن منظومة الدولة وتمول نفسها بالحرابة والسطو على المارة، أو بتمويل عربي إقليمي وفرنسي كما في حالة الكرامة.

وجود العسكر أي كان نوعهم وتبعيتهم مثلهم مثل الملح في الطعام؛ قليلُ يجزي وكثيرُ يُؤدي، فعدم وجود منظومة عسكرية يجعل الدولة ناقصة السيادة على أرضها، وزيادة عدد العسكر يدمر منظومة الدولة الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية عندما ترتهن بعض المؤسسات أو القبائل إلى أدرعها العسكرية، وما نراه من ارتهان مجلس النواب لقوى الكرامة عطل البرلمان وأوصل الدولة إلى الحضيض، وارتهان قبائل المنطقة الوسطى لجضران وقبائل الزنتان لمقاتليها أقفل النفط وأدى إلى خسارة تزيد عن 100 مليار دولار، ناهيك عن تركيع الشعب وتشتته حتى لا نستغرب أن نرى بين مطايا قوارب الموت ليبيين ضاقت بهم الحياة، بسبب خُروقات المسلحين الخارجين عن الدولة.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

التعليقات: 2

  • العبدلله

    السلام عليكم
    بارك الله فيك , نقاط مهمة و تحليل واقعي
    عندي تعقيب على “فالجيش مع ضرورته لحماية الوطن، هو مؤسسة غير منتجة” أرجو أن يتسع له صدرك. غير دقيق القول بأن الجيوش مؤسسات استهلاك بلا انتاج, فكثير من اﻷبحاث العلمية وراءها أموال وزارات الدفاع في دول مختلفة و أهمها شبكة الانترنت التي نتواصل بها اﻷن. بل وصل التمويل العسكري حتى للأفلام.
    الجيوش الحديثة حول العالم تساهم بإيجابية في بناء مجتمعاتها تحت مظلة الحكم المدني.

  • محمد حسين

    بغني أوبغلي لماذا لم تتكلم عن مليشيات مصراتة ومليشيات اﻷمازيغ وعصابات طرابلس يابطل والكرامة فوق رأسك يابغني وتتمدد وخليك راجل كان وصلت إليك ولاتهرب الكرامة واكلة وشاربة على قلوبكم ياحثالات البشر وأبشروا بما يسوؤكم ياأتباع خوان المسلمين والمقاتلة والتكفيريين ومصراتة ودروع الشر وباقي العصابة.

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً