مجلس النواب.. ومزيداً من الإخفاقات

مجلس النواب.. ومزيداً من الإخفاقات

بدأت أول تجربة برلمانية في ليبيا بعد الاستقلال في 19 فبراير 1952م وكان مجلس النواب المنتخب حينذاك على درجة عالية من الوطنية وتحمل المسئولية، ويحسب له التفاني والحرص على وحدة وسيادة البلاد، متجاوزاً مفاهيم الجهوية والقبلية، وقد ترأس المجلس السيد عبد المجيد كعبار الذي اضطلع بمسؤولياته بجدارة وإخلاص، ودامت الدورات التشريعية لهذا البرلمان اربع دورات، حتى مجيء الانقلاب الأسود في سبتمبر 1969م الذي أجهض التجربة الديمقراطية، وقضى نهائياً على دولة المؤسسات .                                                                 أسس القذافي نظامه الجماهيري، ومسرحية ما سمي بسلطة الشعب التي استمرت من 1977م الى 2011م، وجعل من القبيلة ركناً جوهرياً في تثبيت أركان حكمه.. وبعد الانتصار التاريخي لثورة فبراير انطلقت ليبيا تتلمس طريقها مجدداً نحو الحرية والديمقراطية، وبادر الليبيون في ممارسة الحكم الديمقراطي الرشيد بانتخاب أعضاء المؤتمر الوطني العام في يونيو 2012م، وفي العام 2014م تم انتخاب مجلس النواب الحالي الذي يتخذ من طبرق مقراً له.

يمثل البرلمان أحد رموز السيادة الوطنية في كل دولة، “وعصب النظام النيابي، ومستودع الفكر والخبرة، ومصدر قوة الدفع فيها إما الى التقدم أو التعثر”، ومن مهامه التشريع، ومراقبة أعمال الحكومة، وتمثيل الشعب بكافة أطيافه ومكوناته السياسية والدينية والعرقية، يصنع القرارات والقوانين العامة المجردة لما فيه مصالح كل الشركاء في الوطن وتطلعاتهم، ولا تكون توجهاته رهينة للسياسة الخارجية وهيمنة الدول.

هذا ما يفترض أن يكون عليه برلماننا الموقر الذي صوت له الليبيون وهللوا في يونيو 2014م، وعُقدت عليه الآمال في انجاز ما عجز عنه المؤتمر الوطني العام السابق في حفظ الأمن، وتحقيق السلم الاجتماعي وتعزيز الوحدة الوطنية، وقد تضمن الاتفاق السياسي المبرم بين أطراف الحوار في يونيه 2015م  أن” يتولى مجلس النواب السلطة التشريعية للدولة خلال المرحلة الانتقالية ويمارس صلاحياته وفقاً للإعلان الدستوري وتعديله وفقاً لهذا الاتفاق” ولكن تبين جلياً أن هذا المجلس رئاسة وأعضاء دون المستوى، وأداءهم ضعيف جداً ومخيباً للآمال ! فما هي الاسباب؟ وأين يكمن الخلل؟!

السادة أعضاء مجلس النواب من عرب، وأمازيغ، حضر، وبدو.. يلتقون في الهوية الليبية، ويتمايزون في التوجهات الأيديولوجية، انتخبهم المواطنون من بين صفوف الأمة على أساس الكفاءة، والخبرة، والوطنية، وحملوهم أمانة تمثيلهم بالبرلمان ورعاية مصالحهم، القلة منهم تحَمل المسئولية وجاهد في الوفاء بتعهداته رغم الصعوبات وحجمهم لا يتعدى نسبة 15% من اجمالي عدد النواب، أما الأكثرية فـ ” تحسَبُهُم جَميعاً وقلوبُهُم شَتىَ” صدق الله العظيم، هم هواة سياسة وطلاب مصلحة قادتهم الأقدار لقبة البرلمان وهم لا يعون أهمية هذا الكيان ودوره  في استقرار البلاد، يدعون التميز القيادي والفكري بالسياسة، والقانون، والإدارة، وعلوم الدين !! وللأسف الشديد فنسبة الجهل بينهم مرتفعة جداً حتى وإن حمل البعض أعلى الشهادات، تظلهم راية ثورة فبراير وأغلبهم ناقمين عليها.. تترسخ فيهم ثقافة التعصب والإقصاء بشكل عميق وولاؤهم للقبيلة والأفراد أكثر من ولاءهم لليبيا !! لا يدركون حجم المسئولية الأدبية والوطنية لعضو البرلمان وأبسط قواعد العمل النيابي من لوائح، وقوانين، وواجبات متعارف عليها في برلمانات العالم، وتنقصهم الخبرة والجدية في تأدية مهامهم، أقلها حضور جلسات البرلمان التي غالباً ما ترفع أو تؤجل اما لعدم تواجد بعض النواب ورئيس المجلس، أو لعدم التمكن من الوصول إلى أغلبية بشأن بعض القضايا التي تخص البلاد، والأسباب واهية ومخجلة فبعض السادة النواب يتواجدون خارج البلاد حيث اقامتهم الدائمة بمصر، والإمارات، وتونس، وانشغالهم بشؤونهم الخاصة تحول دون ذلك !! ضاربين بهموم المواطن الليبي عرض الحائط ، ووسط حالة التسيب هذه والسلبية لم تتخذ رئاسة المجلس ولجانه القانونية أي اجراءات رادعة تجاه المقصرين بتفعيل اللائحة الداخلية للمجلس، والمادة ( 28 ) من توصيات لجنة فبراير التي تنص :”أنه تنتهي العضوية في مجلس النواب بعدم قدرة العضو على أداء واجباته، وتنتهي بالإسقاط إذا فقد الثقة والإعتبار أو فقد أحد شروط العضوية التي انتخب على أساسها، أو إذا أخل العضو بواجباته.”

يهتمون كثيراً بالظهور الإعلامي لعرض المبررات لفشلهم السياسي، وافلاسهم الفكري، ورغم محاولة بعض وسائل الإعلام تلميعهم وإظهارهم بمظهر الحرفية والوطنية إلا أنهم ليسوا كذلك. ومن خلال متابعة سير الجلسات نلاحظ مدى التقصير والإهمال في هذا الجانب، ناهيك عن حزمة التجاوزات الصارخة والمخلة بأسس الديمقراطية، والمبادئ الحاكمة لصلاحيات مجلس النواب، منها على سبيل المثال لا الحصر:

  • اختزال مجلس النواب في شخص رئيسه وتفرده بإصدار القرارات دون استشارة بقية النواب.
  • قرار مجلس النواب القاضي بالتمديد لنفسه لدورة برلمانية جديدة في جلسة اكتوبر 2015م (ما يعد مناقضاً لبند التجديد الذي لا يتم إلا بالاستفتاء).
  • تمادى بعض النواب بمنح أنفسهم صلاحيات بعقد اللقاءات خارج البلاد مع مسؤولين بحكومات ودول أخرى، ما يعد تجاوزاً خطيراً يمس السيادة الليبية وتهديداً للأمن القومي.
  • إبرام الصفقات، واستغلال النفوذ في فرض أشخاص بعينهم (غير مؤهلين) للعمل في سفارات ليبيا بالخارج.
  • عقد التحالفات مع المليشيات المسلحة والشباب العاطل للمساومة على المصالح وتقلد المناصب.
  • الاستقواء بالقبيلة وتشجيع النعرة القبلية المقيتة لخلق التوتر خدمة لأطماعهم الشخصية!!
  • ينشطون في المطالبة بالحقوق المادية من مزايا ومكافآت بدل نقل وإقامة وحراسة وغيرها، فيصدرون القرارات التي تجيزها كقرار رئيس البرلمان المعيب رقم (72) لسنة 2015م والقاضي بصرف مبلغ (65.000) دينار كتعويض للنواب عن بدل نقل، أي ما مجموعه (10.250.000) دينار، وصرف مبلغ (4000) دينار لبعض النواب بدل سكن في حين أن القرار الخاص بالمرتبات تضمن بند يؤكد على من يقيم في سكن على حساب الديوان لا يحق له أخذ هذا المبلغ.! تصرف هذه المبالغ بالتجاوز في ظل أزمة السيولة، وتدني مستوى المعيشة للمواطن الليبي وعجزه في الحصول على مرتبه البسيط لقضاء احتياجاته الأساسية.!!

لم يسجل لهذا البرلمان المعطل أي نشاط سياسي مشرف يحسن من صورة السياسيين الليبيين أمام العالم، وكم التناقضات العميقة بين النواب أدت لتصدع المجلس وخلق تكتلات متنافرة تسعى للمصالح الجهوية والفئوية الضيقة، لعل أبرزها كتلة ما يسمى السيادة الوطنية أو (الانتكاسة الوطنية)، التي قوامها لا يتعدى (61) نائباً أي 35% من اجمالي عدد النواب، ومن أهم انجازاتها عرقلة التوافق الوطني، والتأجيج وعدم الاعتدال ما أدى لانسداد الأفق السياسي وتعقيد الآزمة.! متجاهلين أنهم انتخبوا لمنع الأزمات بالبلاد وليس لخلقها.

ما الذي قدمه مجلس النواب لليبيين؟! لم يقدم هذا المجلس سيئ السمعة أي مبادرات أو حلول مقنعة للشعب الليبي لوقف نزيف الأزمات في البلد، وما وصلت اليه من مراحل متقدمة من التردي والفوضى والصراع على النفوذ، ولم يفِ باستحقاقاته كما نصت الفقرة (9) من المبادئ الحاكمة، والبنود الواردة بالاتفاق السياسي الذي يُعد مجلس النواب طرفًا فيه منها: (أ) تعديل الإعلان الدستوري. (ب) منح الثقة لحكومة الوفاق الوطني، التي تعد مشروعا وطنيا شاملاً لاستعادة المكانة السياسية والاقتصادية للدولة.  ولم تصدر عن هذا البرلمان أي محاولات جادة وموضوعية لحلحلة الملفات الإنسانية العاجلة كملف النازحين بكافة المدن الليبية الذين تجاوز عددهم (425.000) نازح وإنقاذهم من حياة التشرد والضياع، والمتابع لقرارات المجلس في هذا الشأن فهي لا تتجاوز أن تكون ردود أفعال وحلول وقتية مرتجلة لم تنه المأساة بعد.

ما تعيشه ليبيا حالياً من وضع مأساوي خطير لا يستطيع أحد التنبؤ بقرب انفراجه في ظل السلبية والتسيب من كافة الأطراف، وتعنت مجلس النواب وتبنيه أسلوب المماطلة والعبث السياسي، مما زاد في اتساع هوة الخلاف وإطالة أمد التوتر والاقتتال بين الليبيين، الشيء الذي فاقم المعاناة وأوصل المواطن الليبي لأشد حالات الإحباط والغضب، ودفعه الى حجب الثقة عن هذا المجلس، وحسبه الصبر والدعاء لرفع هذا البلاء.

قال الشاعر النجاشي يوماً:

” فيا ضيْعَـة الدُنيَـا وضيعَـة أهلِهــا                    إذا ولِي المُـلكَ التنـابِلـةٌ القـُـزُم ”

” حفظ الله ليبيا “

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً