ليبيا بين الجزائر ومصر.. درس الواقع والتاريخ

ليبيا بين الجزائر ومصر.. درس الواقع والتاريخ

عبدالرزاق العرادي

عضو المجلس الانتقالي السابق

ميزة التاريخ الأساسية أنه ديوان العبر، وما يعطيه هذه القيمة أنه دليل يحتوي على مختلف أنواع السلوك البشري، وما يترتب على كل نوع من النتائج؛ حتى صارت الصفة التي يحفظها كل الناس عن التاريخ أنه يعيد نفسه. إن هذه الكلمة تحتوي على القاعدة الأساسية للتعامل مع التاريخ، فكلما يفعله الإنسان هو إعادة وتكرار لما فعله سابقوه، ما يختلف فقط هو الأسماء والأماكن، وشكل الوسائل.

إن النتائج الإيجابية تتحقق عندما نتبع أساليب، ونأخذ بأسباب أخذها من جاؤوا بنتائج إيجابية، والعكس. نشعل الحروب، ونمزق الدول والمجتمعات، عندما نحذوا حذو الذين مزقوا مجتمعاتهم، وأشعلوا فيها حروبا، بينما نشيع سلاما، ونبني دولا صالحة عندما نتبع سنن الذين بنوا وشيدوا وعمروا الأرض بالخيرات. تزداد احتمالات تحقق هذه النتيجة بزيادة أوجه التشابه بين المجتمعات، من حيث المعتقدات، والثقافة، والأصول، والعادات، والمراحل التاريخية.

تكتنف ليبيا من الشرق والغرب جارتان تشبهانها كثيرا، وتسوقهما الأقدار إلى نفس المسار الذي تسير إليه ليبيا عبر التاريخ. إن الجزائر ومصر أكثر من جارتين لليبيا؛ فهما امتدادات عميقة، ووشائج مشارقية أو مغاربية، لقسم من الليبيين في الجهتين. وقد مر البلدان بتجارب كثيرة عبر تاريخهما، مرت ليبيا بظروف مشابهة لها.

الجزائر.. سياسة الوئام المدني

قبل أكثر من عقدين من الزمن اندلعت حرب أهلية ضروس في الجزائر راح ضحيتها عشرات الآلاف، واستنزفت خيرات البلد على مدى عقد من القتل والقتل المضاد، تحولت في سنواتها الأولى إلى حرب بين مجموعات عنيفة تتمترس خلف شعارات دينية، ولم تخرج الجزائر من دوامة العنف، إلا عندما تم إرساء سياسة الرحمة في سنة 1995م، ثم تلتها سياسة الوئام المدني، ومن بعد سنة سلسة من القوانين الهيكلية لميثاق السلم والمصالحة الوطنية. كل ذلك فتح أبواب العودة أمام كل من ناوأ البلد، أو قاتل ضد أجهزته، الأمر الذي أعاد للجزائريين شيئا من الأمل في حياة أفضل.

وخلال هذه الحرب الشعواء استوعبت الدولة الجزائرية كل التيارات المجتمعية القابلة بالعملية السياسية، بما فيها تيار الإسلام الوسطي، وظل الإسلاميون جزء من التحالف الحاكم، منذ مجيء فخامة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى السلطة، وحتى وقت قريب، كما ظل جزء منهم معارضة برلمانية تطرح برامجها من خلال مؤسسات النظام السياسي القائم. وقد جنت الجزائر، مجتمعا ودولة، ثمرة هذا الاحتواء بأن تقلصت المساحات التي يتحرك فيها تيار العنف الرافع للشعارات الدينية، ووجد المتدينون في المجتمع لافتات يعبرون فيها عن طموحهم السياسي بعيدا عن لغة السلاح والعنف، والإقصاء والتهميش، وهذا ما تنصح به الجزائر الدول التي تمر، أو على وشك أن تمر، بأحداث مشابهة فتدعوهم للاستدراك قبل الفوات.

مصر.. من الإحتواء إلى الإقصاء

في الجارة الشرقية مصر، شهدت الديمقراطية ازدهارا بعد ثورة 25 يناير، وكان الإسلاميون جزء من المشهد، بل تحولت القيادات التي دخلت السجن بتهم تكفير المجتمع، وحرب الدولة، إلى قيادات سياسية؛ فأصبحت قيادات الجماعة الإسلامية التي أنجبت قاتل الرئيس السادات وقائد تنظيم القاعدة، أصبحت قيادات سياسية تدافع عن آرائها تحت قبة البرلمان المصري، وفي قنوات التلفزيون واللقاءات الجماهيرية في الشارع.

ثم حدث الفصام بين المؤسسة العسكرية والإسلاميين، وتبنت مؤسسات الدولة منهجا إقصائيا اجتثاثيا، أعاد الآلاف إلى السجون، وعاد الشرخ الاجتماعي أقوى مما كان قبل الثورة، وتتالت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، كما وجدت تيارات العنف ضالتها، فأعلنت ما تسميه الجهاد على الدولة، واستقطبت، هذه المنظمات الإرهابية، مئات إن لم يكن آلاف الشباب المصري الذي كان يجد التعبير السياسي عن مطامحه الدينية في التصويت لمرشحي “الإسلام السياسي”.

ليبيا بين تجربتين

لا شك أن لكلا التجربتين متأثرون في ليبيا، من مختلف التيارات السياسية بمن فيهم من كانوا شركاء للإسلاميين في كثير من محطات ثورة السابع عشر من فبراير. وما من شك في أن مصلحة ليبيا، والأرفق بالمجتمعات التي هي في مثل وضعها، أن تستوعب كل قابل بالعملية السياسية كما فعلت الجزائر؛ فمن الناحية المصلحية المحضة ليبيا بحاجة إلى كل مؤمن بالعمل المدني السياسي من أبنائها الصادقين.

ومن الناحية المبدئية، فإن تيار “الإسلام السياسي” في ليبيا عبر دائما عن حس وطني عال، ومستوى غير قليل من الوفاء بالتزاماته مع شركائه في العملية السياسية، وفي كل مراحل الثورة، والمرحلة الانتقالية بعدها.

ومن الناحية الواقعية فإن ليبيا ليست كمصر من حيث وجود مؤسسات صلبة تقوم عليها الدولة، ويمكنها فرز الساحة بين مؤيد ومعارض. إن النظام السياسي في ليبيا ما زال قيد التشكل، وسيأخذ عدة سنوات قادمة، ربما أكثر مما يحتاجه بناء مؤسسات الدولة، لأن النظام السياسي يحتاج من التراكم أكثر مما تحتاجه مؤسسات الدولة، ومن أفضل وسائل تأسيسه تأسيسا صحيحا، بناؤه على قاعدة الشراكة الواسعة؛ حيث لا إقصاء ولا تهميش ورفض التدخل في الشأن الداخلي الليبي بأي شكل من الأشكال.

إن قاعدة الصراع التي صنعتها النخبة الليبية، بعد إسقاط نظام القذافي، أضرت كثيرا بمسار بناء مؤسسات الدولة، وافترضت قيام نظام سياسي غير موجود، في حين أن المراحل الانتقالية تحتاج الإجماع، أو ما هو قريب منه، نظرا لطبيعتها التأسيسية، ولطرحها لقضايا مصيرية مثل هوية الدولة، ونظام الحكم فيها، وطبيعة الإدارة، وهي كلها أمور تحتاج قناعة الكل بها، وليس فرضها من فصيل، حتى ولو ادعى الأغلبية.

الإقصاء.. إرث إستبدادي

يزور الساسة الذين يتصدرون المشهد السياسي الليبي، الجارتين؛ الجزائر ومصر، ويستمعون إلى قادتهما ونصائحهما والتي تتنوع بتنوع تجربتيهما؛ وفي الوقت الذي نتوقع من الجارتين حث الليبيين على جمع الكلمة ونبذ الفرقة، نجد من يعمل على تصدير تجاربه الإقصائية. أخبرني نائب لرئيس المجلس الرئاسي، استقال لاحقاً وأتحفظ على ذكر اسمه، أن نصيحة إقصائية لإبعاد طرف من العملية السياسية، قدمت له من إحدى الجارتين، فرد بالقول هم شركاء في الوطن ورفض بكل أدب التدخل في الشأن الداخلي الليبي، بينما سارع بالاستجابة لنصائح الإقصاء آخرون، كان من بينهم للأسف وفد المجلس الأعلى للدولة ورئيسه.
التجربة الجزائرية نجحت في إقناع تونس بجدوى ما توصلت له الجزائر، وباعتقادي هي الأصلح لمحاولة الاحتذاء في ليبيا، وذلك بنبذ تيار العنف، والقبول بكل من يريد الاحتكام إلى منطق الدولة، فالدول لا تبنى من وحي تجارب الاستبداد الفاشلة، المشبعة بالإقصاء والتهميش والمغالبة.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

عبدالرزاق العرادي

عضو المجلس الانتقالي السابق

التعليقات: 1

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً