سراديب الثورة

سراديب الثورة

أحمد المعمري

إعلامي وكاتب عماني

يبدو للعيان إن السراديب المظلمة التي أعدها الثوار للظلمة باتوا هم أهلها في بعض البقاع وفي أخرى قاب قوسين أو أدنى أن يرموا فيها، هذا فضلا عن اتهامهم بالعمالة والخيانة وتدمير الدولة ونشر الخراب والإرهاب والعوز والفقر وغيرها من التهم التي ينفث الإعلام المضاد سمومها يوميا على الجماهير حتى أثر ذلك على أبناء الثورة وحتى على الثوار أنفسهم وبات الكثير منهم يردد متحسرا قول عمرو بن معد يكرب:

الحَرْبُ أوّلَ مَا تَكونُ فُتَيّة ً … تَبْدُو بِزِينَتِهَا لِكُلّ جَهُولِ

حتى إذا حَمِيّتْ وَشُبّ ضِرَامُها … عادتْ عجوزاً غيرَ ذاتِ خليلِ

شَمطاءُ جَزّتْ رَأسَها وَتَنَكّرَتْ … مكروهة ً للشَّمِّ والتقبيلِ

بعدما كانوا يرددون قول قطري بن الفجاءة

أَقولُ لَها وَقَد طارَت شَعاعـاً … مِنَ الأَبطالِ وَيحَكَ لَن تُراعي

فَإِنَّكِ لَـو سَأَلـتِ بَقـاءَ يَـومٍ … عَلى الأَجَلِ الَّذي لَكِ لَم تُطاعي

فَصَبراً في مَجالِ المَوتِ صَبراً … فَما نَيـلُ الخُلـودِ بِمُستَطـاعِ

هناك عدة عوامل أدت لهذا البلاء العظيم على هؤلاء الثوار (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [سورة العنكبوت 2-3] أولها عدم قدرة الثوار الحفاظ على الاقتصاد أو انتشاله من السقوط المدوي وهذا شيء لا يلامون عليه فليس في أيديهم عصا موسى ، فإصلاح مرافق الدولة وتحسين الاقتصاد يحتاج لوقت طويل وجهد جبار وتكاتف بين الإخوة على بقايا النظام السابق المتغلغل في مفاصل الدولة حتى النخاع، لكن امتعاض أبناء الثورة من سوء الحالة المعيشية فضلا عن غيرها من الأمور جعلهم يخلون بمبادئهم التي خرجوا من أجلها ولم يتحملوا ويصبروا حتى يأتي الله بالفرج من عنده

سيفتح الله بابا كنت تحسبه … من شدة الغلق لم يخلق بمفتاح

والعالم العميق يعلم ملامح هذا الضعف وأن الكثير من الناس ليسوا بأصحاب عقيدة تمكنهم من الصمود أمام شتى الظروف الخانقة وهم يدركون حق الإدراك إن أكثر الناس عبيد للمال وأي تحسّن في الاقتصاد يأتي من أي طرف ولو كان يضرب بالمبادئ في عرض الحائط سيعتبر أصحابه المنقذون والفاتحون وأهل الزعامة فتغلغلت يده الخفية لرؤوس الدولة القديمة عاملا على ردها للساحة ولكن بديباج وقناع آخر وضخوا لهم الأموال دونما حساب ودعموهم في المحافل الدولية والإعلام فدغدغت هذه الأمور أحلام الأهالي فرأوا فيهم المخرج الوحيد للأزمة التي يعيشونها ، لكن ما هي إلا أيام ويكتشفون إنهم قاموا بتنصيب صنم آخر (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [سورة البقرة 105].

والثورة الليبية الآن تخطو على نفس المضمار التي سلكته بعض دول الثورة التي رجعت إلى نقطة الصفر ، فخليفة حفتر إن لم يتم إيقافه الآن ويتم استرجاع الهلال النفطي من يده فجورج بوشنر يقول لهؤلاء ((من يقومون بثورة إلى منتصفها فقط، إنما يحفرون قبورهم بأيديهم )) سيلاقون أشد البلاء وجوارهم أحسن دليل ، ولا يظنون إن دعم الكبار لحفتر سينصره إلا إن تخاذلوا (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) [سورة محمد 4] وكل ما يحاك خلف الكواليس لن يضرهم إن هم تمسكوا بمبادئهم (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [سورة اﻷنفال 30].

وقد كتبت أبياتا بصدد هذا المقال:

زماني شأنهُ يُعلي الذبابا … ويخفض أصيدا ليثا مهابا

ويكرم ناعقا خنعا حلوبا … إذا أمرت حليلتهُ أجابا

وتلفح نارهُ شهما أريبا … يرى الأيام مجدا أو ضرابا

إلى كم نحن في ذل وقهر … ونبلع حنضلا مرّا وصابا

وتضحي اللخلخانيات صيدا … ونحن بأرضنا نمسي الذنابا

وتقتلنا العلوج بكل فجٍّ … وتهدم دورنا حتى الخرابا

وأقصانا تجوب به قرود … وشرُّ الخلق مٙنْ وطئوا الترابا

أما في القوم حيٌّ من قريب … يقود الشزب يلتهب إلتهابا

فينثرها على قوم سوانا … فتملئ من مواكبها الهضابا

سلاهِبُ في كلاكلها سموط … تثير النقع تحسبهُ السحابا

كماة في جنائبها ضبوث … لهم لمَمٌ تزيدهُمُ مهابا

خفيفوا النعل إن غشيوا وطيسا … كساهكة وتلتهم الخشابا

مخضبة نصالهُمُ نجيعا … فما كانت سيوفهُمُ قشابا

وتسمع من بنادقهم دويا … يقض السمع يصطخب اصطخابا

وتبصر من مدافعهم لهيبا … كأن بها صواعق أو شهابا

إذا نزلوا بخصم وقت جزر … فقبل المدِّ قد غذُّوا الحربا

ويجزوا كاسرا عن صيد دهر … وكانت قبلهم ضوَّاً سغابا

عبيد المال والأفخاذ هبوا … فنومَكُمُ لقد أقوى الكلابا

فما عيش على نكد حياة … كعضرطة وقد ألفت سبابا

فإما عيشة في كنف عزٍّ … وإما ميتة تزجي العبابا

ومن يخش المنايا في عجاج … سيلق مصير من لبسوا الحجابا

ألا شتان بينهما عظيم … لعمري أن بينهما الرحابا

بأندلس الخليج أرى دخانا … على الأبواب ينذركم عذابا

فما ينجو على صغر صغير … ولو بلغت مدامعه الربابا

ولن يجدوا لأنفسهم ملاذا … كذا الأيام تنقلب انقلابا

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

أحمد المعمري

إعلامي وكاتب عماني

اترك تعليقاً