حاكموا الدولة: توضيح – حتى لا يظن الاباضية أنهم استثناء (2/2)

حاكموا الدولة: توضيح – حتى لا يظن الاباضية أنهم استثناء (2/2)

د. أحمد معيوف

باحث أكاديمي ليبي

“اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ”

الآية 31 من سورة التوبة

تعود جذور ظاهرة التكفير كما اشرت في الجزء الاول من هذه المقالة إلى الخلاف الذي وقع فيه المسلمين أيام الفتنة الكبرى، حيث كفرت جماعة من المسلمين فكرة التحكيم، وادعت أن التحكيم كفر لأنه احتكام إلى الرجال، فكانت الخوارج هي رائدة الفكرة، واتسعت الظاهرة مع ظهور الفرق الإسلامية التي اوجدت مناخاً مناسبا لهذه الظاهرة، فاتخذت طرقاً أخرى متعددة تبدو واضحة من خلال كتب التراث الفقهي والكلامي، لا سيما تلك التي كتبت في عصور التعصب المذهبي العنيف، فتبادل الفقهاء نوعاً من التهم، وتبادل أصحاب العقائد مثل ذلك وتلقف البسطاء من الخلف هذه التهم وأسرفوا في الاعتداد بها حتى جعلوها معيار ما يقبل من الآراء ويرفض. وقد نال ابو حنيفة النصيب الاكبر من التكفير، لذلك ساكتفي بذكر ما قيل فيه حتى لا يتشعب الامر ويطول المقال.

يقول محمد ابو زهرة (1898- 1974 م) في كتابه، ابو حنيفة- حياته وعصره، اختلف الناس في أبي حنيفة، فقد تعصب له ناس حتى قاربوا به منازل النبيين المرسلين، فزعموا أن التوراة بشرت به، وأن محمد صل الله عليه وسلم ذكره باسمه، وبين أنه سراج أمته، ونحلوه من الصفات والمناقب ما عدوا به رتبته، وتجاوزوا معه درجته، وتعصب ناس فرموه بالزندقة، والخروج عن الجادة، وافساد الدين، وهجر السنة، بل مناقضتها، ثم الفتوي في الدين بغير حجة ولا سلطان مبين، فتجاوزوا في طعنهم حد النقد ولم يتجهوا الى  ارائه بالفحص والدراسة، ولم يكتفوا بالتزييف لها من غير حجة ولا دراسة، بل عدوا عدوانا شديدا، فطعنوا في دينه وشخصه وايمانه.

الشواهد التي ساقها المخالفين في تكفير ابو حنيفة كثيرة جدا، فقد نقل عن الإمام الشافعي في حلية الاولياء لابي نعيم الاصبهاني (948 – 1039م) أنّه قال: ما وُلد في الإسلام أشأم من أبي حنيفة، وقال أيضاً : نظرت في كتب أصحاب أبي حنيفة فإذا فيها مائة وثلاثون ورقة ، فعددت منها ثمانين ورقة خلاف الكتاب والسنّة.

وقال الإمام الغزالي (1058- 1111 م) في كتابه “المنخول في علم الأصول”: فأمّا أبو حنيفة فقد قلّب الشريعة ظهراً لبطن، وشوّش مسلكها، وغيّر نظامها. و أردف جميع قواعد الشريعة بأصلٍ هَدَم به شرع محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن فعل شيئاً من هذا مستحلاً كفر، ومن فعله غير مستحلّ فسق. ويستمر بالطعن في أبي حنيفة بالتفصيل إلى أن قال: إنّ أبا حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، يلحن في الكلام ولا يعرف اللغة والنحو ولا يعرف الاَحاديث، ولذا كان يعمل بالقياس في الفقه، وأوّل من قاس إبليس .اي ان الامام الغزالي جعل ابو حنيفة في مرتبة ابليس  (!!!..).

وفي كتاب ربيع الابرار يروي الزمخشري (1047- 1143 م) نقل عن يوسف بن أسباط : ردّ أبو حنيفة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة حديث أو أكثر، وأنّ أبا حنيفة كان يقول : لو أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذ بكثير من قولي (!!!..).

وقال ابن الجوزي (1116- 1201 م) في المنتظم، اتّفق الكلّ على الطعن في أبي حنيفة ـ والطعن من ثلاث جهات: منها  إنّه صاحب رأي وقياس، وإنّ رأيه غالباً مخالف للأحاديث الصحاح. وينقل الامام البخاري (810- 870 م) في كتابه التاريخ الصغير رأي سفيان الثوري في ابي حنيفة حيث قال عندما نعي له ابو حنيفة “الحمد لله كان ينقض الاسلام عروة عروة! ما ولد في الإسلام أشأم من أبو حنيفة”. وفي كتاب تاريخ بغداد لابوالخطيب البغدادي (1002- 1071 م) سئل شريك مم استتبتم أبو حنيفة؟ قال من الكفر. وورد ايضا في كتاب تاريخ بغداد ان حماد بن سليمان ابلغ سفيان الثوري ان يقول لابي حنيفة انه مشرك حتى يرجع عن قوله في خلق القرآن.

ومثل ما قيل في ابوحنيفة ربما يكون قد قيل في باقي الائمة، فجميعهم نعثو بنعوث الكفر او الزندقة من مخاليفيهم، وقد كانت هذه الموجة التكفيرية سمة من سمات العصر الاموي والعباسي (662- 850 م)، وتقلصت تدريجيا في القرن الخامس الهجري، فعمل العلماء على رأب الصداع بين المذاهب، ومحاربة الغلو في التكفير. وكأن شأن التكفير كان بضاعة العهدين الاموي والعباسي.

اذا، ما حدث من هيئة الافتاء في حكومة الثني ليس بمستحدث، لكني كتبت عن الموضوع ليس من وجهة الفتوة فهي ليست مستحدثة وليست غريبة، وليس من الغريب – بل من الشائع – ان تتصادم الافكار والمعتقدات، ولا ارى حرجا ان يكفر اصحاب مدرسة فقيه مدرسة فقيه اخرى، رغم ان الامل ان لا يحدث ذلك. كما ليس غريب ان تتصادم افكار مدرسة فلسفية مع مدرسة اخرى. لكن القضية في موضوع الفتوة صدورها عن هيئة رسمية تمثل الدولة، والسكوت عنها من قبل مؤسسات الدولة يعني قبولها، بمعنى ان راي هذه الهيئة الذي تبنته هو رأي الحكومة والبرلمان، وربما الجيش ايضا الذي يحتضن هذه الجماعة التكفيرية التي تهيمن على هيئة الافتاء.

وارى ان على الحكومة والبرلمان، من قبيل النصح، ولكي يثبتا انهما مؤسسات الدولة الليبية وليس مؤسسات فئة في الدولة الليبية، ان يعملا على حل اللجنة العليا للإفتاء، ويشرعان في تشكيل هيئة إفتاء تضم علماء واعضاء يمثلون المذهب المالكي والاباضي (وحتى المداخلة طالما اصبح لهم حضور) حتى لا يطغى رأي فقهي على توجهاتها. واني احي السيد ابراهيم الدباشي مندوب ليبيا السابق للأمم المتحدة الذي كان اول من دعا إلى حل اللجنة العليا للإفتاء التابعة للحكومة المؤقتة إن لم تكذب الفتوى الصادرة عنها، كما احي الدكتور محمد زبيدة الذي خصص حلقة في برنامجه ومضات قانونية على قناة ليبيا 24 لهذا الموضوع، وقبل ارسالي لهذه المقالة اطلعت على البيان الذي صدر عن عدد من المثقفين والحقوقيين ونشطاء من المجتمع المدن بخصوص هذا الامر وهو جيد رغم تأخره، الا ان كل البيانات الصادرة في شجب هذا الامر ادانت الفتوة وكان الاجدر ادانة الحكومة ومطالبتها بحل هيئة الافتاء. لذلك، أوكد مرة اخرى ان لا تكتفي الحكومة بتكذيب الفتوة، بل ان تعمل على اعادة تشكيل الهيئة.

والله من وراء القصد

 

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. أحمد معيوف

باحث أكاديمي ليبي

اترك تعليقاً