بالتعيين

بالتعيين

د. محمد المفتي

طبيب وناشط سياسي مستقل، ومؤلف في التاريخ الاجتماعي الليبي.

بعد واقعة الأبيار البشعة وقصف درنة المأساوي والتمهيد الجاري لحرب السيطرة على العاصمة بحجة تطهير ورشفانه، لا نعلم ما القادم حقا. قد يكون الهدف المباشر والبسيط تعطيل قافلة سلامة ومنح الرئاسي عاما اخر في السلطة.. أو ربما تقسيم فعلي للبلاد.

هناك أيضا حرب شرق أوسطية كبرى على الابواب، أو هكذا يتوقع المراقبون بعد استقالة الحريري رئيس وزراء لبنان المفاجئة من السعودية وخوفه من العودة الى لبنان حيث يخشى اغتياله كما قال. وإذا اندلعت الحرب بحجة تدمير حزب الله في لبنان فإنها ستجر اليها دولا اقليمية كبرى (إيران وتركيا واسرائيل). حرب شرق أوسطية كبرى ستعنى أن الاهتمام سيتراجع بالقضية الليبية ويترك الليبيون لصراعاتهم الانتحارية المدمرة التي لا تنتهي.

أمام هذه الصورة يفترض ان يزداد بحثنا إلحاحا عن مخرج منطقي. لقد أهدرنا الكثير من الوقت واللغة في عشرات اللقاءات والتصريحات والبيانات. فلماذا نتهرب من السؤال الحقيقي: كيف ضيعنا الطريق؟ كل القرائن تشير إلى أن تشخيصنا للأزمة خاطئ. وأن علينا مراجعة أنفسنا.

لنضع أيضا خلفنا أحزان السنين الاخيرة ولنتوقف عن جلد الذات وتحقير الليبيين فتسعين بالمائة منهم لم يحملوا سلاحا ولم يشاركوا في قتال أو تدمير منشآت نفطية او مطارات او أنابيب النهر الصناعي ولا في تهريب نفط أو متاجرة في بشر. و90% من الليبيين لم يعرقلوا صياغة دستور ولم يشاركوا في تشكيل حكومات متنازعة. الليبيون إذن ضحايا وليسوا سببا في هذا التخبط النابع من جهل وأنانية ساسته.

وتحاشيا للإطناب، لننطلق هذه المرة من موقف متفائل جدا. ولنفـترض أن ساسة ليبيا جميعهم حريصون على مصلحة الوطن، ولكن لكل منهم وجهة نظره الخاصة. المشكلة أن مواقـفـهـم رغم حسن النية الافتراضية تجاه الوطن، مشحونة بكراهـيات متبادلة وشكوك ومخاوف متعددة بين بعضهم البعض تراكمت عبر الســنين الماضية. وهذه ليست خطيئة، بل تحيزات بشرية طبيعية، لكنها للأسف تحتاج لأمـد طويل لكي تخمد في صدور أصحابها، ولا يجب أن نطمع في اختفائها بلقاءات الفنادق الفخمة.

كما أن الإصرار على شكليات الديموقراطية منطقي نظريا لكنه في تخوم المسألة الليبية أمسى ضربا من خداع الذات بل وأقرب للانتحار البطيء.

فلنسميّ الأشياء بمسمياتها؟

نعم، الأمثل هو اختيار القيادات المطلوبة بأسلوب ديموقراطي يبدأ من صندوق الاقتراع العام. لكن تحقيق ذلك “بالحوار” يبدو شبه مستحيل، فهل وبصراحة هناك أسلوب آخر للخروج من أزمتنا؟

مفتاح الأزمة يكمن في ظني في الاستعانة بأطراف محايدة وفق الأسس التالية:

  • تأجيل الجدل القانوني واستبعاد الانتخابات مؤقـتا، وهذه اجراءات تلجأ اليها الدول في ظروف عدم الاستقرار أهون بكثير مما يهددنا.
  • تكليف رئيس حكومة عبر سكرتارية الأمم المتحــدة، يختار فريقه من الوزراء، ليبدأ فورا في حل كل المختنقات التي تمسك برقبة المواطن. ولعل تجربة إعادة الحياة لمؤسسة النفط في الشهور الماضية خير نموذج للحكومة التسييرية المطلوبة. كما أن هناك سوابق تاريخية. فتأسيس الدولة الليبية كان بالتعيين.. فمثلا كان اختيار محمود المنتصر أول رئيس للحكومة الاتحادية بالتعيين، وكان ذلك قبل إعلان الاستقلال، ونعم قبل إجراء الانتخابات البرلمانية في يناير 1952.
  • ثالثا، اختيار مجلس رئاسي دون صلاحيات تنفيذية ، يتصدى للمعضلات الكبرى على المدى الأبـعـد، مثل المصالحة الوطنية واستكمال تأسيس الجيش وسحب السلاح العشوائي والاعداد للانتخابات…الخ. وهذا يحتاج إلى زمن وربما سنين حتى تخمــد الحساسيات ويســتعـيد الليبيون الثقة ببعضهم البعض.
  • من المهام المبكرة للمجلس الرئاسي اصدار قانون حكم محلي بإنشاء محافظات، وتعيين محافظين مؤقتين، ثم إجراء انتخابات محلية للسيطرة على القوى المحلية وتنازعاتها.

ولعله من حسن حظ ليبيا أن لدينا الآن من قد يكرر دور المبعوث الدولي، الدبلوماسي آدريان بلت راعي استقلال ليبيا. فمبعوث الأمم المتحدة د. غسان سلامه رجل محنك عايش محنة الحرب الأهلية في لبنان، ويظهر جدية وحرصا على القضية الليبية.  بينما سكرتير الامم المتحدة الحالي السيد آنتونيو غوتيريس برتغالي تجري في عروقه دماء متوسطية تجعله يرى ليبيا كجزء مكمل لحوْض البحر المتوسط وهو أيضا قادر على رؤية امكانيات التصالح وراء لغة الغضب والنزاع السائدة …  وبإمكان الرجلين ابتكار آليات عملية وناجعة لمساعدتنا في تخطي مأزقنا المستحكم.

هل التعيين ممكن وفعال؟ ولم لا، خاصة وأن المعينيين سيعملون تحت رعاية الامم المتحدة. وبالتالي لن تهم انتماءاتهم السياسية أو الجهوية.. الخ.

وما جدوى التعيين؟ كحَل اولي وتحت رعاية أممية من باب ادارة محرك السيارة لتتنطلق ومن ثم اصلاحها تدريجيا في وقت لاحق. فهكذا يمكن أن تستعيد أجهزة الدولة فعاليتها وتلتفت إلى المعضلات الخانقة من سيولة وتضخم وخدمات متردية ونزوحات لا إنسانية وحروب محتملة وغزو بشري من وراء الحدود، نتيجة تعدد سلطات القرار بين حكومات ومجالس ضعيفة ومنقسمة، ونتيجة تمادينا في ملاحقة سراب الحوار.

إن ليبيا بحاجة إلى إنعاش أولا، قبل أن تلتقط أنفاسها.

وماذا إذا استمرت الأمور على ما هي عليه؟ أخشى أن ننحدر إلى حروب جاهلية وشيء شبيه بمطاردة الساحرات التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطى.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. محمد المفتي

طبيب وناشط سياسي مستقل، ومؤلف في التاريخ الاجتماعي الليبي.

اترك تعليقاً