لكم زعمائكم ولنا دولتنا

لكم زعمائكم ولنا دولتنا

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

المتتبع للشأن الليبي لا يستطيع فهم المشهد إلا بتحليل القوي الفاعلة على الساحة الليبية وسبر أغوار العقل الجمعي المحرك والمناصر لها، بلا شك أن العقل الجمعي الليبي ليس موحداً وليس على درجة متقاربة من الإدراك، فهو منقسم طوليا منذ أمد بعيد، وعلى مدى سبعون عاما من محاولات إنشاء دولة وطنية جامعة لم يتم إزالة رواسب عدم الثقة بين الفرقاء. لن نعود إلى محاولة أحمد باشا القره مانلي بتشجيع ودعم من الأمريكان من النزول في الشرق الليبي لأجل الإنفصال عن إيالة أخيه يوسف في طرابلس، ولا عن إستقبال السنوسي الكبير القادم من ولاية مستغانم بالجزائر والتمكين له في الجغبوب بعد أن رفضت طرابلس حتى مروره من أراضيها عند عودته من مصر ناهيك عن بناء زوايا له ولكننا سنكتفي بالتاريخ الحديث والواقع المعاش.

هذا الإنقسام الطولي زاد من جدوته الكثير من الساسة والكتاب المصريين؛ منهم عزيز سوريال عطية  أستاذ العصور الوسطى بكلية الأداب جامعة الإسكندرية  والذي قام بزيارة لمدن الشرق الليبي حتى أجدابيا سنة 1945م، والذي كان يدعوا إلى فصل برقة عن ليبيا، يقول في معرض حديثه عن ليبيا “أن جزء من تاريخ برقة مرتبط بمصر البطالمة وبيزنطة، في حين طرابلس مرتبطة بروما وان قبائل الشرق أكثر تمسكا بالبداوة، وأنقى عروبة ولغتهم أقرب إلى الفصحى”.  بعد ذلك بسنوات قليلة حزم رجال برقة بمساعدة الأنجليزوقيادة محمد بن على السنوسي بإنشاء إمارة برقة، ولم يفكر هؤلاء في الأجزاء الأخرى من الوطن، وعندما عجزت الدول الكبرى عن إيجاد حل لتقسيم الأراضي الليبية فيما بينها عقب الحرب العالمية الثانية ثم تحويل الموضوع إلى الأمم المتحدة وكان الإستقلال بضم ألأجزاء الثلاث لتكوين دولة موحدة، وبقي الملك أميرا على برقة قبل أن يكون ملكا لليبيا، وتم إزاحة الكثير من القوى الوطنية المعارضة له في جمعية عمر المختار ببنغازي والأحزاب الوطنية في طرابلس.

قد يكون الأستاذ عزيز محقا في أن برقة متمسكة أكثر بالنظام القبلي والقيم العربية، وهذا ما جعل التعامل لا يتم على أسس المواطنة بل على أسس قبلية عشائرية ينتفي فيه  رأي الفرد، ويصبح العقل الجمعي للمجتمع يدار بسلطة شيوخ القبائل وهو مانراه حتى الآن. فتنصييب أحمد باشا القره مانلي ثم السنوسي الكبير وحفيدة محمد بن على الجزائري، وأخيرا المشير صاحب الجنسية الأمريكية وحتى جضران المستوطن حديثا ورئيس الوزراء من القارة السمراء، لم يستفتى فيه مواطنوا تلك المدن بقدر أنه قرارات يزعم شيوخ القبائل أنها تخدم العشيرة والقبيلة ولا يفكر أحدا منهم في الدولة، فمفهوم الدولة خارج نطاق إهتمامات المجتمع القبلي، ومن الواضح أن المجتمع القبلي يهتم كثيرا بالزعيم أكثر من إهتمامه بالمؤسسات. يقول الأستاذ عبدالله بعيو في كتابه دراسات في التاريخ اللوبي “يعزي القبول بالغريب في برقة أن المجتمع يتكون من قبائل تحدث بينها خصومات، ومخافة أن يكون المحكم منحازا يتم تحكيم الغريب الذي يطمأنون إلى نزاهته وعدم محباته لطرف على آخر”.

نعم هناك في المنطقة الشرقية نخبة على درجة عالية من الثقافة والفهم والإدراك، ولكنها لا تستطيع الخروج عن العقل الجمعي السائد إلا بالخروج من المشهد والإنزاء أو أنها قبلت اللعبة وأصبحت مدجنة، أما المعارض لهذا النهج فهو عميل ومارق وليس من أبناء القبائل المعتبرة، وهذا المشهد لا نظير له في الغرب الليبي حيث لا سلطة للقبيلة على الفرد، وليس هناك عصبية للقبيلة إلا في بعض القرى المنزوية.

هذه المشكلة الثقافية لها إنعكاساتها وأزماتها السياسية والإقتصادية والتي خيمت على البلاد خلال السنوات السبع الماضية ولا حل مرضي للجميع في وجود المنظومة الفاعلة الحالية، فمجلس النواب لن ينعقد بكامل أعضاءه، وإتفاق الصخيرات لن يضمن في الدستور بسبب عدم الإتفاق على التعديلات، والدستور لن يتم الإستفتاء عليه بسبب عدم التوافق، والمؤتمر الجامع لا أهمية له بسبب تباين المواقف،  والإنتخابات لن تتم بسبب وجود حكوماتين ومؤسسات لكل منها، بل أن مجموعات قامت بتمزيق ملصقات التسجيل للإنتخابات وتطالب بتفويض العسكر لقيادة الدولة, وإن حدث الإنتخاب قد ينتج برلمان ثالث وحكومة رابعة.

توقف البرلمان عن عمله بسبب الخوف من إنفصال برقة، إذا ما تم تنحية رئاسة  البرلمان وعقد جلساته في مدينة أخرى مثل هون أو الخمس أو جادو أو سرت، مع العلم أن إنفصال برقة عن ليبيا في غاية التعقيد، منها أن ليس هناك برقة جغرافية ولا سكانية واحدة فهي برقة البيضاء وبرقة الحمراء بل وحتى السمراء، وأن أهلها يعارض جلهم الفيدرالية فما بالك الإنفصال كما جاء في إستبيان جامعة بنغازي في سنة 2013م، حيث بينت أن 8% على مستوى ليبيا و20% على مستوى برقة فقط تؤيد الفيدرالية ولا أحد يؤيد الإنفصال.

ومع رفض رئاسة البرلمان التنحي أو حتى مناقشة الأمر وتأييدها لمطالب شيوخ القبائل بتحويل المؤسسات السيادية إلى برقة وتوفير مبالغ لإعادة إعمار بنغازي التي تم هدمها بسواعد أبنائها، قد تقفل الحقول النفطية مرة أخرى، ولن يستطيع البنك المركزي الإيفاء بمرتبات الموظفين وتنتهي معه أرصدة المجنب، ومع غلاء الأسعار  وإنتفاء السيولة، وعدم قدرة البنك على القيام بدوره حيث أن إثنين من لجنة الإدارة من المنطقة الشرقية منقطعون عن العمل، والثالث مستقيل ستتفاقم الازمة الإقتصادية وتزداد سؤا، ولذلك رفع المحافظ الراية الحمراء تعبيرا عن عدم قدرته على وضع سياسة نقدية في زمن التشطي السياسي والمؤسساتي.

الأكذوبة التي يروج لها الفيدراليون وشيوخ القبائل دائما أن المنطقة الشرقية المصدر الأساسي للنفط ولذا يجب أن يكون لها نسبة من ريع التصدير، وحقيقة الأمر أن معظم الحقول في هذه المنطقة قد أستنزفت لما يقارب نصف قرن، وقارب نضوبها وتنتج حاليا بإسترداد إضافي لحقن الماء أوالغاز كما أن ضغوطها قد إنخفضت كثيراً، في حين أن حقول حقل غدامس  مثل حقل الوفاء وأوباري (حقل الشرارة والفيل) وصبراته البحري (NC41)لازالت في بداية إنتاجها وستسمر لنصف قرن آخر أو يزيد.

من المعطيات السابقة يحق للمواطن البسيط في المنطقتين الجنوبية والغربية أن يطالب بخطوات عملية لإنشاء دولة مدنية حديثة تضع القبلية وزعمائها والمشيخة ورموزها والصحوات وفلولها وراء ظهرها، والتشمر عن سواعدها لبناء المؤسسات وإصلاح الإقتصاد، فمشاكل ليبيا بسيطة وحلولها في متناول اليد إن غرب عنها المتخلفون سياسيا والمتربصون لزعامتها خارج نطاق القانون. أما برقة فتترك لآبنائها إما يثور الخيرين لتغيير المنظومة القبلية المتخلفة أو تترك لتتقاذفها الزعامات الوافدة أو القبلية المتخلفة، علما بأن جميع المؤسسات الرسمية الليبية لها مناظر في حكومة البرلمان بداية من ديوان الوزارة إلى مؤسسة الطاقة الذرية.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

اترك تعليقاً