التشدّد على خطى داعش

التشدّد على خطى داعش

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

ربما داعش كمنظومة لإدارة مدينة بدوواينها ومؤسساتها الأمنية والقضائية قد إنتهت ولكنها كفكرة يعتنقها البعض لإداء الغير أو الإنتقام باقية بقاء الفكر الديني المتشدد، وللأسف سيستمر الترويج للمذاهب الإسلامية المتشددة لعقود قادمة وبمبررات كثيرة منها الصحوة الإسلامية لأجل إقامة شرع الله على الآرض، ومنها محاربة العلمانية، أو إتباع السنة على طريق سلف الأمة.

إذا إستثنيا حفنة من القادة الأجانب وجموع الهاربين من الفقر المدقع وسؤ الحال ببلدانهم العربية والأفريقية، نجد أن الصف الثاني من الليبيين، والكثير منهم من القبائل القاطنة في المدينة أو على أطرافها، (علما بأن سرت لم تكن مدينة حتى نهاية السبعينات بل هي محطة عبور بين الشرق والغرب الليبي) ولكن ما سُخر لها من إمكانيات وأُنجز فيها من مساكن حديثة ومرافق كثيرة خلال الثمانينات جعلها عاصمة الثقافة العربية في سنة 2011م، رغم أنها لم تفرح بذلك.

توطين داعش في سرت كان بنا على  مناكفات بين قبائلها، (يقول المثل الليبي: من أوصل الطليان للكفرة إلا الليبييين)، وحيث أن المجتمع قبليا إلى حد كبير فلقد وفر لداعش الحماية والمدد بل أن الكثير من الدواعش الأجانب قد دخلوا المدينة بأوراق رسمية، وهذا ليس حبا لداعش بل نكاية في 17 فبراير ومن يدعمونها وقوى التغيير عامة. وما أن وضعت حرب البنيان المرصوص أوزارها حتى هرب جل الدواعش الليبيين إلى خارج المدينة بأسلحتهم وعتادهم، وتركوا المغرر بهم من الأجانب ليلاقوا مصيرهم، وبذلك لن نستغرب إستمرار الهجمات على خطوط انابيب النفط وعلى مسارات التزود بالمياه للمدن، والسطو على شاحنات الوقود.

للإسف نجد ان التصرف القبلي المدعوم بالتشدد الديني قد جلب الدمار والعوز والفاقة للمدينة، وتشريد أهلها، وتعليق الكثير من جثامين شباب المدينة عند جزيرة الزعفران.  ولكن ما هو الفكر المتشدد الذي لا ينفك أن يضم إليه مئات الشباب منذ قرابة ثلاثين سنة؛ بداية من المتشددين في درنة عند منتصف الثمانينات إلى وقتنا الحاضر. رغم تعدد الأسماء من الصحوة إلى القاعدة إلى جماعة الهجرة إلى السلفية العلمية والجهادية ونهاية بداعش فإن الفكر واحد والذي يسعى إلى إقامة ولاية دينية إسلامية، ومعظم هؤلاء ينتمون فكريا إلى نهج الشيخ إبن تيمية ومن تلاهم مثل محمد عبدالوهاب وغيرهم، والقلة القليلة إلى المنشقين عن جماعة الإخوان المسلمين مثل الظواهري.

من نافلة القول أن هناك عوامل مجتمعية عامة وهناك أسباب شخصية تدعوا لإعتناق مذاهب متشددة، فمن الأسباب المجتمعية أن خلال ستون عاما الماضية كان الليبيون تحث وثيرة الدعوة إلى هويات عابرة لأوطان، أي الهوية العربية الإسلامية، وهي مستوردة من النظام المصري الناصري، مما جعل ألاف الشباب يعتقدون أن المشاركة في حرب لبنان أو سوريا أوالعراق حربا مشروعة بل من صميم الدود عن حياض الأمة العربية والقومية العربية والمشاركة في  قومية المعركة، بالمثل التطوع لحروب خاسرة في قندهار والصومال والعراق وسوريا بإسم الدين، وبذك خرجوا زرافات وفرادى، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من إستفاق على وقع تنفيذه للمخططات الغربية والأمريكية خاصة ومنهم من رجع إلى الوطن حاملا تجاربه في التشدد مما تعلمه في السجون أو من إخوة السلاح وأئمة التشدد في تلك البقاع.

الملاحظ على الأمر أن معظم المنتمين للمذهب السلفي هم من الشباب صغار السن، وممن لم تتاح له فرصة الدراسة الجامعية، وإن وجدوا فمعظمهم من التخصصات العلمية مثل العلوم والهندسة والطب، والكثير منهم من خريجي المعاهد الفنية المتوسطة والعليا، وأعداد كبيرة من التجار، والبعض منهم ممن له سوابق وهداه الله للطريق المستقيم ولكن شدة رغبته في التكفير عن ذنوبه السابقة جعلته متشددا إلى أبعد الحدود.

ولا شك أن القادم من البادية ومن تسكن فيه البداوة أقرب إلى الإنخراط إلى سلك المذهب السلفي لإعتبارات موضوعية منها إضفاء الوجاهة الدينية والمكانة الإجتماعية بمجرد تغيير بعض ملامح المظهر مثل القمصان الطويلة والمحارم البيضاء على الرأس والسواك  والتلفظ ببعض الكلمات المتداولة عند طلبة العلم في المذهب الحنبلي. هناك شريحة من الأمازيغ ممن لهم باعا في قيادة المذهب السلفي وجل هؤلاء من الصف الثاني للقادمون إلى المدن من معاقل المذهب الإباضي في جبل نفوسة أو زوارة، ولقد وجدوا أنفسهم ليسوا مالكية وليس لهم إرتباط قوي مع مذاهب أبائهم، فأنساقوا للمذهب السلفي كبديل للخيارين.

بالمقابل قلما تجد خريجو  كلية الشريعة أو الدعوة الإسلامية منتمين للمذهب السلفي، وينذر أن تجد محاميا  أو قاضيا على المنبر يتحدث عن الفرق بين الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات  أو التكفير أو نبش القبور أو تبديع طاهي الفول في عاشوراء. ولكن لماذا هذا الإصطفاف؟

ما يمكن قوله على ليبيا وقد ينسحب على الكثير من الدول العربية، أن الدولة خلال الأربعين سنة الماضية قد توسعت في التعليم الفني والمهني أملين أن يكونوا نواة لقاعدة صناعية جيدة ترتقي  بهياكل ومؤسسات وإقتصاد الدولة، ولكن لم يواكب ذلك تغييراُ ثقافيا لنظرة المجتمع العربي عامة ومنها الليبي للحرف وللمهن؛ بأنها من الأعمال الأقل شأنا أو انها من أعمال الفقراء والمهمشين، (ولقد ذكر ذلك إبن خلدون  في المقدمة عندما قال أن العرب ليسوا من أهل الصنائع)، خلافا للتجارة التي دائما يستشهد بها أنها مهنة الرسول، ويدعم ذلك حديث النبئ عن نافخ الكير وبائع المسك، رغم أن نافخ الكير فوائده للمجتمع أعظم بكثير من بائع.

هذه المشكلة الثقافية جعلت الكثير ممن إنخرطوا للمهن عنوة أو إضطرارا أن يتركوها إلى مهن أخرى مثل التدريس أو مهام الإدارة أو تعلم بعض الدروس والإستماع لبعض خطب مشائخ السلفية ثم إعتلاء منابر المساجد، ولذا نجد ضمن 27000 خطيب مسجد في ليبيا جلهم لم يتحصل على شهادة جامعية في العلوم الشرعية، ومعظم هؤلاء ممن سلكوا طريق التأهيل الشخصي السريع عن طريق الإستماع للخطب السلفية الجاهزة، مما جعل خطب التشدد منتشرة تقذف بالعوام إلى حتفهم في حروب خاسرة ومهام منافية للعقل السوئ، وإنقطاع الخطاب الديني عن المجتمع ليهتم بالمسائل النقلية المعادة ويبتعد عن مقاصد الشريعة وهموم المواطن. وهذا لا شك ناتج من عدم وجود معيارية عند تعيين الخطباء من مكاتب الأوقاف.

ومعالجة الموقف لن يكون أمنيا، ولكن بنشر الوعي بين المواطنين، والذي قد يتجه إلى النقاط الآتية:

  • أن الوطن الليبي هو التاريخ والجغرافيا، هو الهوية والملجاء، هو الجزء والكل، ولا نحتاج لهويات أخري، وهذا لا يتعارض مع إنتمائاتنا المتوسطية والمغاربية والعربية وألأفريقية وحتى الإنسانية.
  • ان القبلية لا تستطيع أن تكون وطناً، ولكن الوطن في غنى عن القبيلة، ولذا فإن التطور الحتمي من القبلية المرتبطة بالبداوة إلى المواطنة سلوك حضاري يجب أن يغرس في الجيل الجديد.
  • أن الحرفة شرف والعمل عبادة والتقاعس عن العمل يد سفلى، والدول لا تبنى بالتجار بل بالحرف الصناعية المتقدمة.
  • مناهج التعليم الثانوي للقسم العلمي يجب أن يضاف إليها مادة الفلسفة كما في القسم الأدبي، وهي المادة التي حصنت مئات الشباب من الإنزلاق مع تيار التشدد الذي يعتمد على النقل دون إعمال العقل، مادة الفلسفة لها أهمية في تمحيص وفرز الفكر الغث من السمين، وبذلك يكون الخريج محصنا من الأفكار المتشددة، في زمن نرى فيه من يحمل شهادات عليا ويقوم بإلغاء عقله، فيساق كالعوام كما تساق البعير.
  • أخيرا أن لهذه الدولة مذهبان (وهما المذهب المالكي والإباضي) لهما تاريخ طويل وحافل في التسامح والعيش الكريم وهذا يجب أن يحصن ضد بزوغ مذاهب وافدة لها دعم خارجي وافر لتنشر مبادئ التكفير والتفجير وإقصاء الآخر، وبث الفرقة بين أبناء الوطن بدعوى أنها الفرقة الناجية، والفئة المختارة.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

اترك تعليقاً