سرّديات عند غبش الفجر «أحزان مقّفلة»

سرّديات عند غبش الفجر «أحزان مقّفلة»

انه يحمل فوق كتفيه رأس مملؤ بالكثير من الحماقات، انه ابني واعرفه، يجب إدخاله القفص كي لا يطير ثانيتا، يجب تزّويجه، وإغراق هذا الرأس في  الهموم اليومية الصغيرة ، حتى يسّتوي ، ثم أردف الأب قائلا : – لا أجد حل غير هذا، وسكت، أطرقت الأم قليل ثم قالت :- لكنّه يتهرب عندما أفاتحه في هذا الشأن ،  فأنت تعّرفه حججه متينة ولا أجد أمامها إلا الصمت لقد سمع حديث والديّه وهو يَهمْ بالدخول إلى حيت يجلسان، شغله كثيرا ما سمع، واستشف ثقل ما يعانيان ، فاستسّلم لرغبتهما، أتى على نفسه وتخلى عن قراره.

فمند سنوات مضت، وبعد حوار داخلي دام طويل مع نفسه، داخل جوف زنزانة انفرادية احتوته ظلمتها المغلّفة بزمهرير ليلة عاصفة من ليالي ديسمبر الطويلة ، في احد سجون طرابلس  ، أتخذ قراره بالرحيل لو تمكن من الخروج ذات يوم، لقد حاول الرحيل ذات مرة، فخذلته حساباته ورمت به في قبو زمن ميت ، تناوبه فيه زنازين وسجانين وأزمنة بطعم الموت ، لازالت مررتها تسكن حلقه.

كان مسّتغرق حتى (شوشة) رأسه، في استرجاع ماضي ملاء عليه كل حواسه، فقطعه عن حاضره ، لولا معاودة الطفل للصراخ ، فأنتشله إلى آنيه في طرّفة عين، كان طفلهما يصرخ بصوت واهن هدّه التعب، لا يكاد يسمع من هدير السيارة المتّجه بهم مسّرعة صوّب الشمال،  لكن للوالدين مسامع  تحس قبل إن تسمع، كانت الالآم ألدى  يعانى طفلهما،  تعتصر قلبيهما، فينزفان دموعهما بصمت، كلا بطريقته، وليس الذكر كالأنثى، كان الصراخ ينقل لهما توجّع هذا الكيان الغضْ الملفوف بقماط من قماش، كان الجسد الصغير يستعين بالصراخ لمقاومة الالآم التي تحاول افتراسه ، عندما يفّلح في صدّها وتتراجع عنه، يغّفو الصراخ ويخّمد الجسد، ولحظتما تسّتجمع الالآم قواها وتنهض، يسّتفيق الصراخ المقاوم، كان كيان رغم طراوته عنيد لا يعّرف الاستسلام، وهما أمام كل هذا لا حول لهم ولا قوة،  كانت الأم تذرف  دموع سخيّة بصمت مطّبق ، من حزن يحتويها ويعتصر قلبها على طفلها البكر، الذى تحّتضنه بحنان بالغ محاولة إلصاقه بكيانها علّ هده الأوجاع تتخلى عنه وتتسرب إلى كيانها، كانت تسّتجّمع  كل قوى تركيزها فى محاولة منها، لسحب هده الأوجاع الصارخة من طفلها، لتدفع بها بعيد عنه، هكذا قال لها ذات مرة :- فئ مقّدور البعض أن يُبعد الآلام عن الكائن البشرى ، باستجماع شديد لتركيز مقرون بصورة ذهنية واضحة للمرّغوب ، ،لكنها رغم محاولاتها المتكررة , لم تفلح في ترّويض ذهنها والسيطرة عليه ،  فما أن تبدأ حتى يتفلّت ويتبعثر ، فلا تستطيع  لمّلمته من فرط الإرهاق، فتنهار وتستسلم لأحزانها.

استسلمت الآلام وتراجعت أمام مقاومة الجسد الصغير، فسكت الطفل وغفي، اتخذت السيارة المسرعة بهم صوّب الغروب، عم صمت أطبق على كل شي حوله، تسلل عبر ممراته الى داخل ذاته، ألتقي صوتها القادم من أعماقه قائلا له : -أعرف بأنك لن تتكلم، فقد حفظت درس سجانك جيدا في زنازين زمنك الميت،  للصدق أقول :- لم تكن نجيب في سنينك الأولى، وصعب عليك ابتلاع دروسه وهضمها، ففشلت وفشل سجانك معك، فمدد سنين سجنك الخمسة بعدما أنهيتها يوماً بيوم  بل ساعة بساعة دقيقه بدقيقة، فهو لايستطيع إطلاق سراحك، حتى ولو أفنيت  عمرك كله داخل زنازنه، ادا لم تتعلم بان السكوت من دهب, وفى كل  زمان ومكان، وما بعدها في عوالم المجازات اللغوية الواسعة.

واعرف أيضا بأنك تتقدم برحلتك الحزينة هده،  نحو مدن الجوار, نحو مدن بحّرية العينين، هكذا يحّلو لك تسّميتها لحظات صفوك الناذرة، لتدق أبوابها مستنجدا بدواء، علاج، عافية، تدفع بها عن طفلكما الآلام والأوجاع التي تتناوبه مند عشرة أيام فائته، وتفكك بها أخزان رفيقتك المسكينة، فصحرائك حيت منابت طفولتك ومراتع صباك، حيت تضرب جذورك في البعيد، تخّتزن في جوّفها الكثير من الحول والطول، ولآكنها لا تخرجه لا نكد،  في تجليات مملؤه بالاندهاش.

ففي اكبر حواضرها بالشمال، تمكّنت به من دفع البحر بأمواجه بعيدا عن أقدام المدينة ، وجعلت منه يباس ، تم بلطته وضربت فيه طريق  ،  ربما تشبّه بموسى , ولكن لموسى عصاه ،  ولصحرائك ما أن مفاتيحه لتنؤ به العصبة أولو القوة ، ولك أنت أحزانك تحّملها وتذرع بها ارض الله ، باحتا عن طريق  تصلك بدواء ، علاج ، عافيه ، تدفع به الموت الذي يحاصر طفلك في حضن أمه ، انتشله من أعماق ذاته وحواراتها الموجعة ،عودة  الطفل للصراخ.

نظر إلى ساعة يده ، كانت تشير إلى الرابعة إلا دقائق صباحا ، أمامه القليل من الوقت ، ويصل بوابة العبور إلى مدن الجوار ، قفز إلى دهنه (التسريح الامنى )، حاصرته هواجس سوداء ، حاول جاهد الحصول على دالك التسريح اللعين ، نصحوه بالذهاب إلى فرع المكتب الثاني بالإقليم الجنوبي ، كان متردد ، فلا يزال جديد العهد بما هو فيه ,  فلم يتمكّن بعد من نفضْ غبار زنازين زمنه الميت ، رغم محاولاته المتكررة  , كان الفشل حليفه دائما،  فلازالت مفردات سجانيه الخشنة تعشش في تجاويف ذاكرته ، مختلطة بقرّقعات مزاليج وإقفال وصفعات أبواب فولاذية لزنازين كالقبور ، لكن توجّعات طفلهما وإحزان زوجه ، جرت قدماه إلى دالك المكتب ، لم يسمح له بالدخول ، أوقف أمام باب حديدي كبير يتوسطه شباك صغير ذو قضبان شاقولية ، يقبع خلفه عسكري مناوب ، حدّته من خلف الشباك قائلا :- أريد من مكتبكم تسريح يمكّنني من العبور إلى مدن الجوار ، تم أردف :- فتشت هنا عن دواء ، علاج ، في المتناول ادفع به مرض يفترس طفل لي مند أيام فلم أجد ،   طلب العسكري هويته الشخصية ، ناوله إياها ،   غاب العسكري خلف الباب لساعات وعاد ، اعاد له هويته  وقال :- لايوجد تسريح ألان ، راجعنا بعد اسبوعين ،  حاول أن يفتح معه باب للنقاش لإفّهامه ، فقفل العسكري الشباك دى القضبان الشاقولية الصدئة ، فانّسدت في وجهه المعابر جميعها غربية وشرقية دفعة واحده.

ظهور الإضاءة الساطعة لبوابة العبور الغربية ، أعاده إلى حاضره بكل تفاصيله الحزينة ، ها هو أمام المنّفذ ، ركن السيارة على الجانب الأخر ، المقابل لمكتب الجوازات ، لملم كل أوراقه ، نزل من السيارة ، عبر الطريق ألى  المكتب ، وجد نفسه أمام شباك المكتب ،  أصابه الذهول مما راء، نفس الشباك ذو القضبان الشاقولية ، نفس الملامح التي خطّت وجهه العسكري المناوب ، نفس المفردات التي يلوكها أتنا حديثه ، نهضت روائح تملا المكان هي ذاتها التي تفوح من دلك المكتب بالإقليم الجنوبي  ،  كظم اندهاشه ، ناول أوراقه للعسكري  القابع خلف الشباك ، تفحّصها ، رفع المناوب رأسه عن الأوراق وقال :- انتظر ، اختفى بالأوراق وراء أبواب كثيرة ، عاد بعد زمن ، وقال   بعد ان أعاد ه الأوراق   : – ينقص أوراقك التسريح الامنى ، يجب إحضاره من مكتب الإقليم الجنوبي ،   فلا عبور للمفند بدونه ، حاول آن يفتح باب للحوار والتفاهم  ، قفل العسكري الشباك دى القضبان الشاقولية ، فنّسد في وجهه المعبر ألدى لايبعد عنه سوى خطوات.

نهض في صدره غضب طفق يكبر شيء فيشاء , مع صوت قادم من أعماقه يقول :- إن رجعّت إلى الجنوب فلن تصل ، وان وصلت فلن ترّجع ، إنهم يصنعون لطفلك تابوت لا يزيد طوله انش واحد عن جسده الغض.

امتلاء صدره غضبا حتى الضيق ، ضاق به المكان ، فضاق به الكوّن ,  وقذف به إلى عوالم ما بين الصحّوة والغيبوبة ، تراءت له قريته مطّوقة بأسلاك شائكة ،  عيناها وفمها , قفلت بقضبان شاقوليه صدئه , وأبوب فولاذية لها مزاليج ضخمة وإقفال كزنازين ،  ظهرت فى الارجاء أعقاب بنادق تحّملها أحدية ضخمة ، امتلأت   مسامعه بلغط  لرطين تعلم فك أبجديته في ابتدائيات الجنوب زمن صباه  ،  أناس لهم سحنات رسمت بملامح أهل الشمال البعيد , حيت منابت الصقيع المغلف بالضباب ، يلعقون قار اسود بنهم نار جهنم ، أعلام ورايات انجلوسكسونية وأخرى ذات خطوط زرقاء وبيضاء تملأ المكان ، آهل قريته عِجاف لاهمات لهم  , يتعالى من عيونهم صراخ ينضح حزنا ،  تتوسط قريته شاشة عملاقة  , ينّهض منها ضجيج يغطى أشياء مذهلة , لها استفهامات بحجم الإنسان وحياته ، ضجيج في ضجيج يملأ أدنيّه ،   استفاق من غيّبوبته مرّتبك على صوت فرامل شاحنة ضخمة , كادت تدّهسه ،  دفعته قليلا , أختل توازنه , كاد يسقط ارض ،  قائد شاحنة النفط صرخ بغضب ظاهر ، ينمْ عن سوء منابته قائلا :-إن لم تنتبه لنفسك ستقّتل ، رد بصمت مخاطب نفسه :- من لم يمت بالسيف مات بغيره.

أنتبه إلى انقباض غريب في صدره ،  جرّ قدميّه بصعوبة نحو السيارة حيت الطفل وأمه ،  عبر الطريق وعلى بعد خطوت واحده من السيارة ،  سمع نحيب لبكاء خافت ،   فتح باب السيارة ،  رفعت فيه عينين دامعتين تتوسط وجه يعّتصره الم اصفر ،   قالت  بصوت يغالبه البكاء :- لقد اختفى الدفء من جسده الصغير , وتحول إلى قطعة باردة ، انحنى على مسند الكرسي الامامى للسيارة مولّى وجهه حيت تجلس والطفل ،  أزاح قماش القماط عن الوجه الصغير، وضع أصبع يده اليمنى على الجبين المتغضن ،  كان بارد وعيناه قد قفلتا في نوما سرمدي ، رفع عينيه في وجهها ،  قرأت ما تقولهما   ، انخرطت في بكاء مغلف بشهقات هستيرية، استوي فئ مقعده خلف مقود السيارة ، أدارها فارتفع هديرها مغالب بكاء الأم  ،  استدار بالسيارة مولى وجهه صوّب الجنوب ،  تعالى بكاء الأم وتحوّل إلى عويل  ، امتدت يده على نحو هستيري إلى مذياع السيارة  , يفتش على غير هدى ، أتاه صوت بلحن سماوي عبر الاثير( والبلد الطيب يخرج نباته بأذن ربه والدي خبث لايخرج إلا نكد )، انخفض عويل الأم وتلاشى بكائها رويدا رويدا إلى سكُون ، أطبق على عالمه , فقفل أحزانه.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً