برغم حكم المحكمة لا يزال الصلح سيد الاحكام فهل يتنازل الخصوم؟!

برغم حكم المحكمة لا يزال الصلح سيد الاحكام فهل يتنازل الخصوم؟!

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

لا يخفى على احد مآلات الامور في ليبيا اليوم , حيث القتل والدمار وجبة يومية على مائدة الوطن المكلوم في ابنائه ومقدراته , حين تزمجر آلة الموت والدمار , يلتهم صوتها المخيف صراخ الرجال وبكاء الاطفال والنسوة مثل التهام حممها ونيرانها اجساد الليبيين ومقدراتهم! بكل بساطة يمكن لأي متفحص للشأن الليبي ادراك اسباب هذا الوضع المأساوي , الذي صارت ليبيا تعيشه اليوم ,وبكل بساطة لن تجدوا غير غطرسة البعض وعنادهم سببا وراء كل البلاء وهذا الدمار الكبير.

للأسف كل من ادعى ولازال يدعي انه الاكثر ثورية وحرصا على الوطن ومقدراته , من الساسة الذين ساقتهم الصدفة فوصلوا في غفلة من الحقيقة الى تقلد مقاليد السلطة والحكم في ليبيا ,  هم الآن الاكثر ظلما وطغيانا ودمارا وتشريدا للوطن !!  فماذا قدم اولئك لليبيا ولشعبها غير المزيد من القتل والدمار والخراب والتشريد ؟!  لو استعرضنا المسيرة بدء من المجلس الانتقالي وحكومته ثم المؤتمر العام وحكومتيه ثم ما نحن فيه الان من عبث سياسي وفوضى ادارية والمتمثل في وجود جسمين تشريعيين وحكومتين اثنتين لما وجدنا بارقة امل واحدة من اولئك وهؤلاء!

الحقيقة الصادمة هي ان من يتقلدون سدة الحكم الآن اثبتت التجربة والواقع انهم عاجزون بإمتياز, وليست لهم القدرة على قيادة البلد وخاصة في فترة حرجة كهذه , وهذا ما يربك الوضع ويزيده تعقيدا وانهيارا !! فإلى متى يستمر هذا الافراط العبثي بأرواح الليبيين ومقدراتهم من فئة لا تفقه ادارة الازمات قليلها؟!. عندما نأتي على المؤتمر العام: نجده قد فشل فشلا ذريعا في تحقيق الحد الادنى مما يجب ان يفعله , بل تجاوز حدود صلاحياته وادخل البلد في فوضى ادارية وعسكرية يصعب الفكاك منها الا بحجم كبير من التضحيات البشرية والمادية !!, زد على ذلك تعنت بعض اعضائه وإصرارهم المستميت من اجل البقاء في السلطة ولو على جثث جميع الليبيين , حتى بعد ان انتهت مدتهم القانونية بحكم الاعلان الدستوري!!.

اما عن مجلس النواب فبعد ان سارت الانتخابات سيرا صحيحا وأعلنت النتائج , كنا نتوقع من اعضائه ان يكونوا في مستوى المسئولية, وعلقنا عليهم الامال الكبيرة في انقاذ البلد والعودة بها الى طريق الاستقرار لكن بعضهم وللأسف افسد علينا حلمنا حين تسرع في عقد الجلسة الأولى والتي اعتراها ما اعتراها من النواحي الرسمية والدستورية, ففتحوا بعجلتهم وتسرعهم بابا للفتنة كان يتربص له تجار الحروب والسياسة, من بعض اعضاء المؤتمر وبعض النواب الذين على شاكلتهم , فدقُ اسفين الفتنة في خاصرة البرلمان الوليد, وكانت نتيجته انقسام اعضاء البرلمان عن أنفسهم وبدأت المؤامرة تنسج خيوطها في ضوء النهلردون حياء.

هنا تمترس كل فريق خلف واجهته : فريق يمثله مجلس النواب الذي اتخذ طبرق مقاما له لاعتبارات أمنية  وفريق اخر يمثله المؤتمر الوطني العام الذي تمادى في تحدَيه لمجلس النواب في طبرق بأن قام بتكليف حكومة موازية سمَاها حكومة الانقاذ !!  ولم تقف الامور عند العراك السياسي بل امتدت الى المواجهة العسكرية المسلحة حين تبنى من يمثلون المؤتمر الوطني ما يسمى بعملية فجر ليبيا وتبنى مجلس النواب ما يسمى بعملية الكرامة وهكذا اختلطت الامور وزاد الوضع ارباكا وسوء, فأتسع جرح الوطن الذي اصبح يغذى من اطراف مختلفة سواء في الداخل او الخارج تدفع كلها في اتجاه تقاتل الليبيين وتناحرهم.

بالمنظور المحايد , لا غضاضة في شرعية مجلس النواب المنتخب , فهو الجسم الشرعي في ليبيا الآن , وهو الذي يعترف به العالم دون غيره, لكن بمنظور الواقع كان ممكنا تجنب ما وصلت اليه الامور من اضطراب وفوضى, لو تفضل السادة النواب في طبرق بتقديم مصلحة الوطن وتمهَلوا قليلا في عملية الانعقاد بطبرق ببحثهم عن الية مناسبة للطرفين في مسألة التسليم والاستلام, لو فعلوا ذلك لأوصدوا كل منفذ لبعض اعضاء المؤتمر المتشبثين بالسلطة وقطعوا الطريق امام نواياهم وبعض النواب المقاطعين. ان قليلا من الوقت والحكمة كانا كفيلين بتجنيب الوطن المزيد من القتل والخراب والدمار وكان ممكنا كشف النوايا امام الشعب ليتمكن من اتخاذ قراره المناسب في الاصطفاف.

لكن بعد ان وقع الفأس في الرأس !! وحدث ما حدث , ثم حكمت المحكمة, اليس واجبا علينا التفكير الآن بروح وطنية مخلصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ؟! فباب الأمل لا يزال مشرعا , والأمر لا يتطلب سوى تضحية بحجم  الوطن , من كل الأطراف , تبدأ بالتخلي عن الغطرسة والعناد , وتنتهي بتقديم تنازلات معتبرة من اجل ليبيا. ان كل ذلك لا يكلف سوى جلسة حوار وطني صادقة في اي بقعة من ليبيا, والاتفاق على الية مناسبة لحسم الخلافات بين الخصوم , ان مجرد الالتقاء كفيل بإذابة جليد الانقسام ,ليتكشف من ثم الوجه الحقيقي للوطن الواحد الذي يحاول البعض تمزيقه وتشويهه في عيون الاخرين,عندما يتجلى وجه الوطن ناصعا براقا امام الجميع سيطيب حتما التحاور والنقاش والتشاور بلغة جامعة , لغة تتقدم فيها مصلحة الوطن على كل ما سواها , فهل يكون السادة النواب في طبرق والمقاطعين لهم وأعضاء المؤتمر العام وكل المتنفذين من مدنيين وعسكريين على درجة من الحرص والإحساس بالوطن تجعلهم يدركون خطورة انقسامهم وفداحته فيستعجلون التواصل مع بعضهم اليوم قبل الغد ,  ثم يتحاورون ويتناقشون بدافع المسئولية التاريخية والواجب الوطني لإيجاد مخرج لازمة استحكمت وأطبقت ويخرجون بمبادرة وطنية صادقة تنقذ ليبيا وشعبها من مصير مجهول ومنزلق خطير. ان حكم المحكمة شأن قضائي يحترم, لكن الذين بيدهم خيوط اللعبة ويمارسون السياسة هم ليبيون ولكنهم على طرفي نقيض! لماذا لا يتنازل الخصوم على كبريائهم وشدة عنادهم من اجل الوطن؟! اليس الصلح بسيد الاحكام؟!. فحين يتفاهم الخصوم لم يعد لحكم المحكمة قيمة وشأن, وتلك قاعدة قانونية واجتماعية متداولة في التقاضي سواء على مستوى الافراد او الجماعات.

ليعلم الجميع انه بدون الحوار والتوافق لن تقوم الدولة وانه من العار ان يفتح باب الانقسام امام مريديه الذين طالما تمنوه, وليعلم الجميع ان حكم المحكمة لن يحل المشكلة بل يزيدها تعقيدا ذلك ان المؤتمر الوطني العام ليس ممكنا التئامه بالعدد الكافي وبلوغ النصاب فأعضائه من الشرق الليبي سيقاطعونه حتما بالإضافة الى بعض الاعضاء الاخرين من مناطق مختلفة! اذا قد يستحيل انعقاد المؤتمر وهذا يعني استمرار الصراع بل وتفاقمه.  ارجو الله ان يهدينا وكل الليبيين الى ما فيه خير بلادنا ووحدتها واستقرارها.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

اترك تعليقاً