فهمي هويدي: ارفعوا أيديكم عن ليبيا

لا أمل في حل المشكلة الليبية ما لم يكف الأشقاء العرب خصوصا عن التدخل فيها.

(1)

بات الحديث متواترا في التقارير والتحليلات التي تتناول الشأن الليبي عن انفراط الدولة ودخولها في مرحلة «الصوملة»، بمعنى التمزق والاحتراب الذي يسبق التحلل، والاندثار، فقد صرنا بإزاء «دولة» فيها برلمانان وحكومتان، وفي بعض الأقطار أصبح لها سفارتان، وهي المشكلة التي تعاني منها الآن مالطا المجاورة، وفي حين غادرتها أغلب السفارات الأجنبية لكي تمارس عملها من الدول المجاورة، كما أوقفت خطوط الطيران الأجنبية رحلاتها إليها، فإن إنتاج النفط تراجع إلى النصف، وأجهزة الدولة أصيبت بالشلل، الأمر الذي أدى إلى توقف مرافقها عن العمل. وأصبح ذلك البلد النفطي المنكوب على شفا الإفلاس، أما الشيء الوحيد الذي يتحرك فيه فهو الاقتتال والسعي الحثيث للإقصاء.

في الوقت ذاته فإن الحاصل في ليبيا أصبح يقدم تارة بحسبانه صراعا بين ليبراليين وإرهابيين، وتارة أخرى كأنه مواجهة بين الثورة والثورة المضادة، أو بين الجيش الوطني والميليشيات. أو بين الإسلاميين والعلمانيين، إلى غير ذلك من التوصيفات التبسيطية التى تلتقط ملمحا وتعممه أو تخترع لافتة وتسوقها، أو تتمنى شيئا وتتعامل معه باعتباره حقيقة.

لست أدعي ان تلك العناوين لا وجود لها فى ليبيا.. إذ لا أنكر انها موجودة بالفعل، إلا انها تمثل أحد عناصر المشهد ولا تصلح لأن تكون عنوانا له.

(2)

لتبسيط الأمر وتقريبه إلى الأذهان سأضرب مثلا بأسطورتين جرى الترويج لهما خلال العام الماضي، من خلال وسائل الإعلام وأسهما إلى حد كبير في تضليل الرأى العام وإساءة فهم الحاصل في ليبيا. الأولى تتعلق بقصة الجيش المصري الحر، الذى دأبت وسائل الإعلام المصرية على الحديث عنه وإثارة المخاوف من حشوده التي قيل انها تتجمع في «درنة» على الحدود المصرية.

لست بحاجة الآن لأن أذكر أن الجيش المزعوم لم يعد له ذكر فى الإعلام المصري منذ نحو ستة أشهر، رغم أن بعض صحفنا كانت فى السابق لا تكف عن تحذير الرأي العام وتخوينه من تجمعاته وتدريباته واستعراضات عضلاته وعرباته من خلال صور  تصدرت الصفحات الأولى لبعض جرائدنا. ولعل التجاهل التام لذلك الجيش فى الوقت الراهن خير دليل على ان المسألة كانت أكذوبة كبرى ولم يكن لها أصل من الواقع. علما بأن درنة التي قيل لنا إنها تشكل قاعدة لانطلاق الجيش المذكور تبعد عن الحدود المصرية بأكثر من 300 كيلو متر. كلها صحارى مفتوحة يمكن رصد أى تحرك فيها بالعين المجردة.

الاسطورة الثانية تتعلق بحقيقة الدور الذي يقوم به اللواء متقاعد خليفة حفتر، الذي هزم وتم أسره في تشاد فى ثمانينيات القرن الماضي، ثم أمضى عقدين من الزمان فى الولايات المتحدة تحت رعاية المخابرات الأمريكية وعاد إلى ليبيا بعد الثورة. وهو الرجل الذي يسعى الآن لتشكيل مجلس عسكري لحكم ليبيا في حين تراهن بعض الدول العربية على دوره وتعلق عليه آمالها فى تصفية الثورة باسم إعادة الاستقرار إلى البلاد. ذلك ان خلفيته وتطلعاته تثير بعض الأسئلة لا ريب، إلا أنه أفصح عن بعضها فى حوار أجرته معه في 21/11/2011 «قناة العاصمة» وهي قناة ليبية خاصة يملكها رجل الأعمال جمعة الأسطى، وتعد قريبة من «تحالف القوى الوطنية» الذى يقوده الدكتور محمود جبريل أحد أقطاب الصراع الراهن. في ذلك الحوار سئل اللواء حفتر عن عقيدة الجيش الليبي كما يتصورها فكان رده كالتالي: إن ليبيا يحيط بها جيران فقراء طامعون في ثروتها، ولذلك يتعين التعامل معهم باعتبارهم أعداء لها. وحين عدد تلك الدول فإنه ذكر مصر وتونس والجزائر وتشاد والنيجر والسودان، رابط الفيديو على يوتيوب:

https://www.youtube.com/watch?v=HZwRJJ_-TAE

(3)

خلافا لما هو شائع فى أغلب وسائل الإعلام فإن الصراع الحاصل يدور على 4 جبهات فى ليبيا، وليس جبهتين اثنتين فقط . هذه الجهات يعرضها زميلنا كامل عبدالله محمود خبير الشئون الليبية بمركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام على النحو التالي:

< جبهة الشرق، التى تدور المعارك الأساسية في رحاها ويتمركز فيها اللواء حفتر، وقد التفت حوله عدة فئات منها الضباط السابقون الذين حاربوا معه في تشاد إبان الثمانينيات + واحدة من أكبر كتائب المنطقة (كتيبة حسين الجويفى) + مجموعة حملت اسم «أولياء الدم» وهم عائلات الذين قتلوا فى الاشتباكات + الشخصيات التى خضعت لقانون العزل الذى قرره المؤتمر الوطني وأقصي من الحياة السياسية وشمل كل وزراء وأعوان القذافي + أنصار انفصال الشرق ودعاة ما سمى بالحراك الفيدرالي + قبائل مهمة في الشرق مثل العبيدات والبراعصة والمغاربة والعواقير. كما انها مؤيدة من قبائل الزنتان التي تتمركز في الغرب جنوب غرب طرابلس، الذين لا علاقة لهم بالليبرالية وهؤلاء يقفون وراء البرلمان المنتخب والحكومة التي عينها، واعترف بها دوليا، وقد اتخذت من طبرق مقرا لها.

< جبهة الغرب وركيزتها مدينة طرابلس العاصمة مقر المؤتمر العام والبنك المركزي ووزارات الدولة، وتتجمع فيها القوى التى قامت بثورة 17 فبراير والتي اسقطت العاصمة وانهت حكم القذافي، والإسلاميون ضمن تلك القوى، وقد شكل هؤلاء وهؤلاء ما عرف بقوات «فجر ليبيا»، وهم مؤيدون من قبائل مصراتة والأمازيغ والزاوية وغريان إلى جانبي أهالي مدينة سوق الجمعة وما يربو 22 مدينة فى الغرب.

ومن الغريب أن يوصف هؤلاء بأنهم إرهابيون.

< درنة، وهي مدينة حضرية تعد معقل الإسلاميين المتشددين، وعلى رأسهم جماعة أنصار الشريعة وأنصار تنظيم الدولة الإسلامية (والأخيرون هم الذين بايعوا داعش) إلى جانب مجلس شورى شباب الإسلام. وإذ يشكل الليبيون القاعدة الأساسية لتلك الجماعات، إلا أن بينهم آخرين انضموا إليهم من أنحاء مختلفة من دول المغرب العربي ومصر. وهؤلاء قدَّرتهم المصادر الأمريكية بما لا يزيد على 200 شخص فى حين تتحدث وسائل الإعلام العربية عن ان عددهم يتراوح من سبعة إلى عشرة آلاف شخص، وقد استفادت الجماعات المتشددة من الطبيعة الجغرافية للمدينة، التى خصصتها فى مواجهة العدوان، وادعوا انهم أقاموا إمارة إسلامية على أرضها. ولم تنجح قوات حفتر فى الوصول إليها.

< الجنوب الليبي، وهو الحزام الملاصق والمتداخل مع الدول الأفريقية المجاورة، وتسكنه قبائل التبو ذات الأصول الأفريقية، والطوارق وجزء من الأمازيغ إلى جانب العرب. وبين تلك القبائل جوار تخللته مشاحنات عدة بعد الثورة، بسبب التسابق بينها على النفوذ على طرق التهريب والتجارة فى مناطق الحدود.

(4)

في الوقت الراهن فالقتال الحقيقي يدور على أرض بنغازي والحاصل أن قوات حفتر تملك سيطرة جوية فى حين أن سيطرتها على الأرض ضعيفة، وهي تعتمد على التفوق الجوي في محاولة إضعاف جبهة الغرب والسيطرة على طرابلس وعلى منطقة الهلال النفطي. إلا أن قوات فجر ليبيا المتفوقة على الأرض مازالت ثابتة في مواقعها، حتى انها أخرجت طرابلس من دائرة الصراع وأصبحت آمنة تماما، من ثم فإن المشهد يمكن تلخيصه فيما يلي:

* لم يستطع أى من الطرفين هزيمة الآخر وأصبح الاقصاء والاجتثاث عنوانا يتردد في وسائل الإعلام دون أن يترجم إلى حقيقة على الأرض.

* لعب الدعم الخارجي دورا أساسيا في إطالة أمد المواجهة، ورغم ما أشيع عن تدخل فرنسي في جنوب البلاد، إلا أن الدعم الخليجي للمتقاتلين على الجانبين له إسهامه الأكبر فى ذلك. ذلك أن قطر ودولة الإمارات تدعمان الطرفين بالمال، إلا أن الدعم الإماراتي أضاف السلاح لحفتر وجماعته، الأمر الذي مكن الأخيرين من الاحتفاظ بالتفوق الجوي، وسمح لهم بتعويض عدم سيطرتهم على الأرض، ولم يعد سرا ان الدعم الإماراتي يمر بالقاهرة، التي دعمت بدورها جماعة حفتر على الصعيدين الإعلامي والسياسي.

* حين التقى الطرفان المتقاتلان فى جنيف مؤخرا استجابة لدعوة مبعوث الأمم المتحدة، فإن ذلك كان قرينة دالة على انهما أدركا فى نهاية المطاف ان الجلوس حول طاولة الحوار أمر لا بديل عنه، وان السلاح لم يكن كافيا لحسم الخلاف بينهما، ورغم ان تلك خلاصة مهمة إلا أنه يشكك في جدواها أمران أحدهما ان اللواء حفتر حين وافق على إطلاق النار فإنه استثنى ما أسماه التصدي «للإرهابيين». وهو تعبير يلقى قبولا في الدوائر الغربية إلا أن له مفهوما آخر على أرض الواقع، لانه اعتبر كل معارضيه إرهابيين: وما كان له ان يتبنى ذلك الموقف إلا إذا كان مطمئنا إلى استمرار الدعم الخارجي له خليجيا ومصريا. الأمر الثاني ان فكرة الحوار والمصالحة التى تؤيدها بعض دول الجوار (الجزائر وتونس والسودان تحديدا) تتحفظ عليها مصر والإمارات العربية المتحدة، الأمر الذي قد يعني إطالة أمد الصراع واستمراره لأجل لا يعمله إلا الله.

* الأمر المؤرق في المشهد لا يتمثل فقط فى استمرار الصراع بين كتلتي الشرق والغرب، وإنما يتمثل أيضا في أن تدخلات الخارج في سعيه لتحقيق مقاصده في الحشد والتأييد، أحيت الصراعات التاريخية والقديمة بين القبائلالتي تعددت أسباب نزاعاتها وثأراتها. وهو ما حدث مثلا بين قبائل مصراتة والزنتان وبين التبو الأفارقة وبين القبائل العربية، ومن شأن ذلك ان يوسع من دائرة الصراع بما يجعل من عودة الاستقرار والوئام إلى ليبيا حلما بعيد المنال. وهو ما يسوغ لنا ان نقول ان ليبيا أصبحت ضحية صراعات ابنائها وتدخلات جيرانها، حتى غدا إثم الأشقاء لا يقل مضاضة عن إثم الأبناء.

هذا المقال بقلم فهمي هويدي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية

اقترح تصحيحاً

التعليقات: 1

  • ماجد

    الكاتب لاتزال تنقصة المعرفة الجيدة بليبيا
    ولكن ساركز نقدي على نقطتين اساسييتين
    1 اغفالة لوجود ارهابيين في بنغازي ودرنة هم العمود الفقري لما يسمى مجلس شورى بنغازي
    2 وصف مصراته ومن يواليها وحدهم بالثوار وفي هذا مغالطة من جهتين
    -ان كثير من الثوار قد انضموا للكرامة بل ان حفتر وبو خمادة والجضران من قادة الجبهة بعد ان كانت ليبيا قسمين شرقي (برقة ) معقل الثورة وغربي (طرابلس وفزان ) موالي للقذافي (ماعدا مصراته والجبل الغربي ) واليوم اصبح حلفاء مصراته المالون للقذافي هم الثوار وتحولت برقة وحليفتها الزنتان وهم عماد الثورة الى ازلام
    -الدروع التي تكونت بعد سقوط الثورة ومقتل القذافي ويقدر عددهم ب 200 الف تقريبا (طمعا في المكافأت المالية )لم يشترك اغلبهم في الثورة التي كان عدد المقاتلين فيها بصعة الاف مات من مات وجرح من جرح بل ان كثير منهم في صف الكرامة الان
    -الحرب الان في ليبيا اهليه جهوية ليست بين ثوار وازلام هذا هوالواقع الذي يتجاهله الجميع مجموعة تحتكر السلطة باسم الثورة والوحدة الوطنية مغلفة بفتوى دينية اتخذت الاخوان والاسلاميين واجهة ساسة مقابل مجموعة اخرى ترفض ذلك وقد يكون التحق بالركب من اخذته الحمية الجهوية او المطامع السياسية

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً