“حل” الجماعات ليس حلاً

“حل” الجماعات ليس حلاً

لا يخفى على أحدٍ، ما تمر به ليبيا من مخاطر عظيمة، وما يحدق بها من نكبات سياسية واجتماعية وثقافية، تسعى لطمس هويتها، ونهب خيراتها، وإفساد شبابها، ورهن سيادتها لمخططات التبعية والتغريب، ونزعها من نسيجها العربي والإسلامي، ومنعها من الإسهام في بناء حضارة هذه الأمة المجيدة.

شعبنا يعيش حالة من الحيرة، والتيه، والتناقض، ما بين نزعة الفطرة، التي تأسست على إجلال الدين، واحترام العرف، والفخر بالتاريخ، والأنس بالمجتمع، وحب الوطن، … وما بين تعاليم جاهلية، ودعوات شهوانية، وغرائز حيوانية، تلاحقه بها الفضائيات ووسائل الإعلام، وسوائل الأقلام، حثيما حل وارتحل، وإينما سامر خله، أو خلا بنفسه.

بين شباب ثائر، تفتحت زهرة شبابه على واقع مرير متخلف، …كان يتطلع للحرية، ويتوق للعدل ، ويحلم بالتنمية ، والإبتكار ،والمنافسة، وكسر قيود الاستبداد،…وبين زعامات هشة شائخة، أفلست عقولها ، وقست قلوبها، ورضعت الذل، وهتفت طويلا للمستبد، وامتهنت النفاق، واتخذت من الدجل والخداع سلماً تلبي به أهواء النفس ومطامع القبيلة ،… فلم تحسن بناء دنيا، ولا صلاح دين.

أزمة ليبيا – كما قلت في أكثر من مناسبة – ليست سياسية فقط ،حتى تنتهي بموت طاغية ، ليحل مكانه طاغية جديد ، وليست دستورية فقط حتى تحل بكتابة وثيقة ، وليست في طائفة من سدنة الطاغية ، حتى إذا جاءهم ( العزل ) برز صبيانهم وأتباعهم ، فصعدوا على منصة الحكم ،وعادوا سدنةً لحاكم آخر ،مستبد عربيد ، ولكن بعلم ونشيد جديد !!

إن حِبالَ أزمتنا أيها الإخوة ، تشكلت عبر عقود متراكمة من التيه ،والتخلف ،والظلام ، تعاقب على نسج خيوطها،الحاكم المستبد، والمثقف النذل ،والتاجر الشجع، والموظف المرتشي، والتدين المغشوش ، والأسرة الهشة ، والمجتمع المتملق ،والقبيلة الكاسدة ، والثقافة البالية ،والفن القبيح ،…حتى إذا ما عاد الولد إلى بيته ، وجد – كما قال شوقي – ” أُماً تخلت أو أباً مشغولا ” .

كل هذه العوامل – وغيرها – أورثت فينا ، البغضاء ، وعدم الإنصاف ، والبطالة ، وتفسخ الأخلاق ، ودنو الهمة ، والتنافس على الشهوات ،والتملق للقوي الغني ، وازدراء الضعيف المعدم .

تنافس الناس على أكل السحت ، وجباية الرشوة ، فقست قلوبهم …قطعوا أرحامهم، فحُرموا من الرحمة ،… زهدوا في العلم ، فطاشت موازينهم ،…أهانوا العلماء فحُرموا المعرفة …خانوا الأمانة فاسترابت نفوسهم،

واستهانوا بحقوق العباد ، وتكالبوا على المال ، حتى أصبح الجاهُ والمالُ معيارَ الشرف والفضيلة ، فأمست نفوسنا نفوساً تجاريةً – كما قال الرافعي – :” تساوم قبل أن تنبعث لفضيلة، وتماكس إذا دعيت لأداء حق، ويتعامل الناس في الشرف على أصول من المعدة لا من الروح، فلا يقال حينئذ: إن رغيفين أكثر من رغيف واحد. كما هي طبيعة العدد، بل يقال: إن رغيفين أشرف من رغيف، كما هي طبيعة النفاق”.

لو لم يختم الله تبارك وتعالى رسالات السماء بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لقلنا إن العالم اليوم ينتظرُ ميلادَ بعثةَ رسولٍ جديد ! ولكن من رحمة الله تعالى أن جعلَ بعثةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، هي بعثة أمة خالدة وليست بعثة رسول خاتم ،وكلّفها الأمرَ بالمعروف ، والنهيَ عن المنكر ، وأخذ العهدَ والميثاقَ على رجالها ونسائها؛ أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ،…. وجعل ميراث النبوة في العلم “النافع” ، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر .
إن ما تحتاجه أوطاننا – في تقديري – هو صناعة ” الإنسان ” الذي شرفه الله تعالى ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وأرسل له رسله ، وشرع له الشرائع، وسخر له ما في السموات والأرض ،…

مهمة الصالحين المصلحين ، والفضلاء الوطنيين ، من الرجال والنساء ، هي تكوين جيل جديد ، قوي بإيمانه ، فاهم لتعاليم دينه ، فخور بتاريخ أمته ، مستوعب لقضايا عصره ، متوكل على ربه ، واثق من نفسه ، يسعى لكل أسباب القوة ؛ العلمية، والمادية ،والروحية ، والنفسية ، …..
ولكن هذه المهمة العظيمة لا يمكن أن ينفرد بها مصلح واحد ، مهما علت مواهبه وصدقت نيته ، ولا يعتمد فيها على مؤسسات الدولة المتهالكة ، بل لابد فيها من عمل جماعي ، تسبقه مدارسة وتدبير، وحشد وتنظيم ، وتوزيع المهام على قدر المواهب ، وتدشين مؤسسات مدنية وتجمعات قوية ، لتتخصص في مجالات الدعوة ،والتربية ،والتأليف، والتعليم ،والإغاثة ،…وغيرها، من نواحي الخير التي غاب دورها ،وعفت آثارها ،منذ عشرات السنين .

ليبيا ليست في حاجة لتقويض العمل الجماعي ، الذي يحقق أعظم مقاصد الشريعة ، ويقاوم تيارات التغريب والتخريب ، ويتصدى للفساد والاستبداد ،ويكشف خداع مؤسسات المجتمع الدولي التي أضحت عصابات ” متحضرة ” ومقننة للصوص السياسة والمال ، ….

ليبيا ليست في حاجة إلى “حل” تجمعات الخير بعد تأسيسها ، ونقض عهود الجهاد بعد توثيقها، فالمؤامرات التي تحاك للدين وأهله ، أعظم وأوسع وأخبث من أن تردها الجهود الفردية ،والمواعظ المنبرية ،والفتاوى الدورية ، والدروس الدينية ، والمبادرات الخيالية ،…. ولا ينبغي لبوصلة أهل القرآن من الدعاة والمصلحين ، أن تستمدَ صوابها من عوام الناس، أوتنضبط بما “يطلبه المستمعون ” حتى لو كانوا أعزاء على قلوبنا ، وبخاصة في عصرنا هذا ؛ الذي استطاع فيه الإعلام الخبيث أن يسحر أعين الناس ويسترهبهم ، فأصبح المعروف منكرا، والمنكر معروفا ، وأمسى الأمين خائنا ، والخائن أمينا ، والعلم فتنة والجهل حكمة ،والفجور ذوقا وفنا ، والعفة عجزاً وضعفا …

إن حصرَ أعداد الجماهير ،هي وسيلة تُعبّرُ عن إرادتهم ، كما أن عددَ أصواتهم دليلٌ على حرية اختيارهم – وهو أمر له اعتبار في شرعنا- ولكن منذ متى كان معيار الحق والحقيقة هي الحشود الهادرة ، ومعيار الباطل والخطأ ،هي القلة النادرة .؟

ينبغي أن تتفتّح آفاقُنا على تبدّلات الزمان والمكان ، و أن لا نَحمِلَ “سعةَ ” الإسلام على “ضيق ” صدورنا ، وأن لا نقف جامدين عند الأسماء والمباني ،ونهمل المقاصد والمعاني ، ولا نُحمِّل الفكرةَ الراقيةَ، جريرة الممارسة الخاطئة ، ولا نضيق بتنوع الأسماء وتعدد الاجتهادات مادامت تنهل من معين واحد ، فقديما عرف تاريخ أمتنا المجيد، أسماء وشعارات ،وألقابا وشارات،لم يضق الناس بها ذرعا ،ولم تعرقل سيرهم،أوتنحرف بمسيرهم…

عرف تاريخنا؛ المهاجرين والأنصار ،ومسلمة الفتح وأصحاب بيعة الرضوان ، ومدرسة الرأي ومدرسة الأثر ، والحنفية والمالكية ، والأشاعرة والماتريدية ،والفقهاء والمحدثين ، …وتعصب بعض الأتباع لهؤلاء وغيرهم لأولئك ، فكان العيب في سلوك الأتباع ، وليس في تعدد الأنواع . لأن التنوع والتعدد والإختلاف في إطار أخوة الإسلام العامة ، هو ضرورة بشرية ،وسنة كونية ،وحقيقة شرعية لا ينكرها عالم ، ولا يضيق بها مكابر .
والعمل الجماعي هو مظهر حضاري ، يشي بقدرة صاحبه على الإنضباط ، ويعبر عن روح الشريعة ومقاصد التشريع ، الذي يحث على التعاون ، وينهى عن التفرد ، ويعطي على صلاة الإثنين ما لا يعط على صلاة الفذ ، ويوصي بالإمارة في السفر القاصد ، ويعلمنا الإدارة والنظام والإمارة في رص صفوف الصلاة ومتابعة الإمام ، وترقب الهلال ، وحولان الحول ، ويحب خالقنا الذين يقاتلون في سبيله ” صفا ” كأنهم بنيان مرصوص .
فالجماعات الإسلامية السُنية الراشدة ،مادامت تتفق في الأصول والعقائد ، وتهتدي بالكليات والمقاصد ، ولا تحل حراما أو تحرم حلالا ؛ هي اجتهادات في الدعوة والتربية والجهاد ،كما أن المذاهب هي اجتهادات في العبادة والمعاملات ؛كل هؤلاء يصيبون ويخطئون ، ويحسنون ويسيئون ،شأنهم شأن الأشجار الباسقة المثمرة ؛تسقى بماء واحد ويفضل الله بعضها على بعض في الأُكل ،..
فلا تستعجلوا الأمر قبل أوانه، ولا تستبقوا سنن الله في الكون فقد جاء في محكم التنزيل ” فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ”

جمع الله قلوبنا على التقى ، وبصائرنا على الرشد ، وعزائمنا على عمل الخير وخير العمل . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

ونيس المبروك
09 شعبان – 1436 هـ – 27 مايو 2015م

 

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً