داعش وأخواتها في ليبيا

abdullah_alkabir-600x450

الكاتب الصحفي عبدالله الكبير

شاهدت عبر التلفزيون السيدة سهام سرقيوة، النائب في البرلمان الليبي، تتلو مرافعة عن دورها في نفي التهم الموجهة من المنظمات الدولية للقوات التابعة للبرلمان حول الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها في نطاق سيطرتها، مؤكدة أنها قضت نصف شهر رمضان الماضي في أروقة الأمم المتحدة من أجل هذه المهمة، ولا نعتقد أنها كللت بالنجاح لأن تقاريرالمنظمات الدولية مثل هيومان رايتس ووتش والعفو الدولية تصدر شاملة ودقيقة ومدعومة بالأدلة والشهادات الموثقة فيتعذر دحضها.

حاول الضيف الآخر في البرنامج  المحامي والحقوقي عصام التاجوري تنبيهها أنها لم توفق في اختيار العبارات والكلمات المناسبة، ملمحا لها في طيات كلماته، أن ما تقوله يؤكد التهم الموجهة “للجيش” ولا ينفيها، وأن عليها إعادة مشاهدة الحلقة، مذكرا أن هناك من يسجل هذا الحديث الآن لاستخدامه فيما بعد، وهنا بالتحديد مربط الفرس. إذ في إطار الصراع السياسي بين البرلمان والمؤتمر يسعي كل طرف إلي جمع النقاط التي تقربه من أهدافه، ومن أهم هذه النقاط “زلات” أو ” هفوات” تنطلق في لحظة ما من الخصم أو من أحد مناصريه عبر أثير الفضائيات أو صفحات فيس بوك.

صدمت بشدة من تصريحات السيدة سرقيوة ومن تعليق السيد التاجوري لأنهما من الأسماء التي برزت السنوات الماضية في الدفاع عن حقوق الانسان ومناهضة التعذيب، والموقف السليم والمتوقع من أي ناشط في هذا الشأن هو فضح أي ممارسة فيها انتهاك لحقوق الانسان والتصدي لها بكل الوسائل الممكنة وليس التستر عليها بصرف النظر عن أي اعتبارات أو مواقف سياسية للجلاد أو الضحية، فحقوق الانسان لا تتجزأ ولا تفصل حسب خياراتنا ومواقفنا السياسية، إذا كان الجلاد منا تسترنا عليه وإذا كان من خصومنا أنزلنا عليه اللعنات وأوسعناه تشنيعا وتشهيرا.

من الطبيعي أن تستقطب وسائل الإعلام في الصراع السياسي لأن الإعلام بالأصل من أهم وسائل هذا الصراع، وبالضرورة ينقسم الإعلاميون والكتاب والصحفيون فيتشكل المشهد الإعلامي وفقا لمجريات الصراع وأقطابه، ومن الطبيعي أن يصطف الناس لمناصرة من يرونه علي حق سواء بتفكير عميق قاد إلي اقتناع أو بتأثير وسائل الإعلام، ولكن من غير الطبيعي مطلقا أن ينقسم دعاة حقوق الانسان أيضا، فهذه الحقوق مقدسة لكل البشر بصرف النظر عن لونهم ودينهم وأنتماءتهم السياسية أو غيرها من الاعتبارات، ومن ثم تسمو فوق كل الكيانات والصراعات السياسية، ولكن هذا ما أفرزه الصراع في ليبيا للأسف.

تكونت مؤسسات حقوقية للدفاع عن حقوق الإنسان ومناهضة التعذيب متخصصة في إصدار بيانات التنديد ضد انتهاكات قوات مسلحة أو سجون تابعة لطرف سياسي من دون الإشارة إلي نفس الإنتهاكات التي تقع من قوات وفي سجون الطرف الآخر!!

وقد يصعب علي أي باحث إدراك الحقيقة بسبب تحيز التقارير والبيانات الصادرة عن أغلب المنظمات الحقوقية المحلية إذا كان اعتماده عليها من دون مصادر أخري، وإلا عليه دمج كل التقارير في تقرير واحد شامل ليقف علي كافة الانتهاكات والجرائم التي اقترفتها كل أطراف الصراع، أو يوفر عليه هذا العناء ويطالع تقارير المنظمات الدولية المحايدة والمشهود لها بالنزاهة والموضوعية مثل هيومان رايتس ووتش والعفو الدولية، وأعتقد أن السيدة سرقيوة وكذلك السيد التاجوري وغيرهما من المهتمين بجرائم وانتهاكات حقوق الانسان في ليبيا قد اطلعوا عليها فور صدورها، ولنطالع نتفا من هذه التقارير في الصفحات الخاصة بليبيا.

“ارتكبت المليشيات وغيرها من القوات المسلحة جرائم حرب محتملة وانتهاكات للقانون الدولي الإنساني وانتهاكات لحقوق الانسان… اختطفت قوات فجر ليبيا وكتائب الزنتان ومليشيات ورشفانة مدنيين علي أساس أصلهم أو انتمائهم السياسي، وقامت بتعذيب المعتقلين وبإساة معاملتهم… واختطفت القوات الإسلامية التابعة لمجلس شوري ثوار بنغازي مدنيين وقتلت عشرات الجنود الأسري دون محاكمة، وقامت قوات الكرامة بتعذيب أو إساءة معاملة بعض المدنيين والمقاتلين المحتجزين وكانت مسؤولة عن عدة عمليات قتل بإجراءات موجزة.” (من التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية 2014/15).

“إن الحكومة الليبية المعترف بها دوليا والقوات المتحالفة معها مسؤولة عن انتشار الاحتجاز التعسفي والتعذيب وغير ذلك من ضروب إساءة المعاملة في مقرات الاحتجاز التي تسيطر عليها بشرق ليبيا…قال محتجزون أن المحققين أرغموهم تحت التعذيب علي الاعتراف بجرائم خطيرة، وتضمن الاحتجاز أطفال دون 18 عاما… 73 محتجزا اجرت المنظمة مقابلات معهم قال 35 منهم أنهم تعرضوا للتعذيب عند الاعتقال أو أثناء الاستجواب أو الاحتجاز، 31 أرغمهم المحققون علي الاعتراف بجرائم، 4 منهم قامت السلطات ببث اعترافاتهم علي التلفاز ما أدي إلي اعتداءات انتقامية علي عائلاتهم… جميع المحتجزين لم يمنحوا حق التواصل مع محام ولا عرضوا علي قاضي ولا وجهت لهم تهم رسمية رغم قضائهم شهور في الاحتجاز” (من تقرير هيومان رايتس ووتش).

من الملاحظ أن كل التقارير الصادرة عن المنظمتين لا تسمي القوات التابعة للمؤتمر أو البرلمان بالجيش كما يحلو للمضللين أو السذج، وقد ذكرت السيدة سرقيوة أن الانتهاكات – التي بذلت قصارى جهدها لنفيها-كانت من بين الأسباب التي أعاقت موافقة مجلس الأمن علي تسليح الجيش، فهذه التقارير يطّلع عليها فور صدورها أعضاء مجلس الأمن الذي يؤسس قناعاته ويتخذ قراراته وفقا لما بين يديه من مستندات، وأدلة أخري قاطعة، وبالتالي لا يمكن أن يعترف بجيش لا تختلف ممارساته عن ممارسات الأطراف التي يقاتلها مهما جاء في مرافعات السيدة سرقيوة وخطب السيد الدباشي.

ولكن ثمة موانع أخري أكثر أهمية لعدم اعتراف الأمم المتحدة بجيش البرلمان لأن ثمة معايير صارمة لجيوش الدول غير متطابقة مع هذا الجيش، والموافقة علي دعمه وتسليحه سوف يفتح للأمم المتحدة بابا يصعب إغلاقه، إذ سوف تطالب حركات مسلحة مشابهة بنفس الاعتراف ودعمها إسوة بجيش البرلمان الليبي.

ربما آخر الأسباب هو موضوع الانتهاكات التي ترتكبها كل الجيوش النظامية زمن الحروب، مثل ممارسات الجيش الأمريكي في سجون العراق عقب احتلاله، ولم يجرؤ أحد من مناصري حقوق الانسان علي تبريرها أو الدفاع عنها، حتي رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي لم يعرف كيف يدافع عن جنوده، وقبل دقّائق من التحقيق معه بشأنها في الكونجرس سمح لممثلي منظمات حقوقية أمريكية بالدخول علي لتوبيخه بشدة فيما كان جالسا مطأطئ الرأس. لو رأينا اعتماد هذا التقليد لن نجد لدي حكومة الأزمة وزيرا للدفاع، فآخر وزير دفاع أسقط بقرار غريب من رئيس مجلس النواب مفاده (يانا ياهو)، إذا موقع الوزير شاغر أما (يانا) فمعتكف في منزله احتجاجا!!

أتفهم صمت الكثير من النشطاء والإعلاميين عن الجرائم والانتهاكات خشية تعريض أنفسهم وعائلاتهم بل وحتي مناطقهم لرد فعل عنيف، ولكن لا مبرر أبدا لإنكارها أو محاولة تضليل المنظمات الدولية بالتستر عليها، ولا ينبغي لأي مناضل ضد أي انتهاك لحقوق الانسان أن يستغلها سياسيا لأنه سيخرج في الحالة من صف المدافعين عن حقوق الانسان إلي الصف السياسي بما فيه من انتهازية وتضليل بعيد عن القيم والمعاني السامية لحقوق الانسان.

إن حجم التضليل الإعلامي مخيف، خاصة في ملف جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الانسان في ليبيا، فعن سبق اصرار، ولأسباب سياسية، يتم تضخيم جرائم التنظيمات المتشددة خاصة داعش، وهي جرائم حقيقية ولا ريب، وتهمل جرائم الأرتال المسلحة الأخري التي تحمل صفات رسمية، ولما أجريت تعديلا علي تقارير العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش، بحذف الوصف المعتمد من المنظمتين للأرتال المسلحة ووضعت مكانه “داعش”، وأرسلتها لصديق ليطالعها ويعلق عليها، رد بأنه متوقع منهم هذا وما خفي كان أفدح، ثم أعلمته بالتعديل الذي أجريته وقدمت له التقارير الأصلية، فقال مندهشا وهو يترنح من الصدمة: إذا لدينا أكثر من داعش.

نعم، بالضبط تماما لدينا عدة دواعش، سنضعها كلها علي نفس الخارطة، بعضها يتم التركيز علي جرائمه، وبعضها لا يكتفون بغض أبصارهم عنه، بل ويتسترون علي جرائمه إلي حد نكرانها. لقد أسقطوا الضحايا من حساباتهم، ولكن حتي إذا أفلتوا من المحاسبة فإن لعنات الضحايا وعذاباتهم سوف تلاحقهم طوال حياتهم، لن ينعموا براحة الضمير أبدا.

* كاتب صحفي ليبي مقيم في المملكة المتحدة

اقترح تصحيحاً

اترك تعليقاً