ليبيا.. صراع الحواضر والتخوم

ليبيا.. صراع الحواضر والتخوم

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

يتحدث الكثيرون عن الماسي التي حدثت في الشرق الليبي وأقل من ذلك في الشمال الغربي والجنوب من قتل وتهجير ودمار للبنية التحتية نتيجة الصراع الدائر، ولا يغفل أحد عن ذكر مساوي الأنهيار الإقتصادي وتاثيرة على المواطن، ويشير الكثير من المتابعين بأصابع الإتهام إلى صراع سياسي بين تكوينات سياسية غير مقننة، مثل المؤتمر الوطني ومجلس النواب وتوابعهم من الفيدراليين ومجالس الحكماء والقبائل، وكذلك تشكيلات عسكرية غير منضبطة مثل قوات الكرامة وقوات حرس المنشأة النفطية وفجر ليبيا وجيش القبائل،  والقوات القبلية الأخرى. هذه الفسفساء بقدر ما هي مختلفة الأهداف ومتشعبة المشارب، وهو ما يربك فهم المشهد الليبي من الخارج، بل وعلى الكثير من الليبيين أنفسهم، إلا أن هناك خيوط رفيعة تشكل الرابط بين المجموعات السياسية وأدرعها العسكرية المتناحرة والقاعدة الشعبية المؤيدة لها.

إن الطريق السليم لحل أي مشكلة يكمن في الإعتراف بها وتشخيصها ومعرفة مسبباتها ومدى تأثيرها على المجتمع، ثم الإنطلاق إلى وضع سياسات تحد منها وتمنع تكرارها، أما التغاضي والهروب أو التمويه وتعليق اللوم على الآخر أو الأجنبي فلن يحل قضية ولن يبني وطناً على أسس سليمة.

جذور المشكلة تعود إلى سنة 1050 م (441هجري) عندما أراد أمير الدولة الفاطمية المستنصر بالله الثأر من الخارجين عنه في بلاد المغرب فشجع قبائل بني هلال وبني سليم على الهجرة غرباً للتخلص منهم أولا ولمعاقبة خصومه ثانيا. وصل بنوهلال أولا إلى برقة فوجدوا فيها الخير الكثير وأوعزو إلى قبيلة بني سليم بلحاقهم ثم تحرك بعضاً منهم غربا إلى طرابلس ثم تونس، أما بنوسليم فقد إنتشروا في الشرق الليبي وبعض مدن الغرب. وحيث أنهم من القبائل العربية البدوية التي تعيش على تربية الماشية، لم يطيب لهم البقاء في المدن بل أثروا سكن الضواحي والتخوم على شكل هلال لمعظم حواضر المدن مثل بنغازي ودرنة ومصراته وطرابلس وكذلك مدن جبل نفوسة، في حين أن المدن يسكنها سكان ليبيا الأصليين وبعض العرب الذين قدموا زمن الفتوحات الإسلامية والجاليات الأخرى مثل اليهود والرومان واليونانيين والمالطيين. منذ ذلك التاريخ بقي التوزيع الجغرافي للقبائل العربية على تخوم المدن على حاله إلى الآن، مع تغير كبير في محتوى حواضر المدن الذي أصبح مختلطا من عدة أعراق مختلفة.

فمثلا تلف قبائل العواقير  والمغاربة والفواخر (من أولاد هلال) والجوازي ببنغازي على شكل هلال، ويوجد في وسط المدينة مجتمع مختلط معظمه من غرب وجنوب ليبيا. في العصر الحديث كانت المجاعة التي حدثت في الغرب الليبي في السنوات 1947/1948 م دافعاً للإنتقال من مدن الغرب والجنوب الليبي إلى بنغازي، كما إنتقل الكثير من أفراد الجيش والتجار إلى مدن الشرق الليبي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي وسكن معظمهم وسط المدينة.

في طرابلس يوجد في وسط المدينة خليط من جميع فئات المجتمع الليبي شرقه وغربه وجنوبه، إضافة إلى ليبيون من أصول تركية وإيطالية ويونانية وحتى كردية ومالطية. يحاط بالمدينة هلال من قبائل عربية من بني هلال وبني سليم  أهمها في منطقة المعمورة والزهرا والعزيزية وقصر بن غشير مثل أولاد عيسى وأولاد أمبارك وأولاد عمر ومحاميد الساحل وأولاد دباب وغيرها. هذه القبائل حافظت على موروثها الثقافي العربي وعداتها البدوية مثل الفروسية والكرم والشجاعة وتعظيم الرابط الإجتماعي الأسري وتفضيل الإنتماء إلى القبيلة على الإنتماء إلى الدولة، في حين أن الحواضر لا تنظيم قبلي لها، وإهتمامها ينصب فرديا على تبادل المصالح بين المواطن والدولة، وهو قريبا من مفهوم المواطنة.

يعود أول صدام بين التخوم والحواضر إلى سنة 1805م عندما أرادت أمريكا تنصيب أحمد باشا القرامنللي كحاكم للشرق الليبي، نكاية في أخيه يوسف الذي طرده من الحكم ودخل في حرب مع أمريكا، فكان نزوله في درنه ثم إتجه غربا إلى بنغازي، في هذا الأثناء إنقسمت حواضر وتخوم الشرق عامة وبنغازي خاصة عن بعضها، هناك من يؤيد أحمد باشا المدعوم أمريكيا، وهناك من يدعم يوسف باشا والي طرابلس، وكانت النتيجة حرب أهلية ومجازر تقدر بعشرة ألاف، معظمهم من قبيلتي الجوازي والمغاربة، مما إضطر بالأولى إلى الهجرة إلى مصر بالفيوم ثم المنيا، والثانية إلى النزوح غربا إلى أجدابيا والنوفلية وجالو.

في منتصف العقد الثاني من القرن الماضي أيقنت إيطاليا أن هزيمة الليبيون بحضرهم وبدوهم لن يتحقق في ساحات الحرب بعد ثلاثة سنوات من المجابهة، فغيرت سياستها عندما أغدقت بالمهايا والعطايا والسلاح للحواضر والتخوم وأوعزت لأزلامها ببت الفرقة بينهم، فكانت الحرب الأهلية الأولى في الغرب الليبي بين العديد من القبائل العربية مثل الزنتان والرجبان وقبائل ورشفانة في التخوم والحواضر القريبة منها، ولم تنتهي إلا بهزيمتهم جميعاً بعد دخول القوات الفاسشتية معظم الأراضي الليبية وبسط سيطرتها عليها بعد سنة 1923م.

بعد الإستقلال كان هناك دستور ينظم إلى حد ما الحياة السياسية، وكان مجلس النواب والحكومة تستأتر بهما العائلات الكبيرة، وهو ما جعل الصدام العسكري نادراً، ولكن تنافس وتحشيد التخوم والحواضر كان بارزا في الإنتخابات من سنة 1954 إلى سنة 1964م. في عهد القذافي بنيت الدولة على أساس قبلي بدوي وكانت قبيلته رأس هرم القبائل وذروة سنامها، فلم يعد هناك من منافس له، وإستطاع أن يزيل قادة القبائل التقليديين وينشئ له قيادات قبلية جديدة لها كل الولاء للسلطة، بالمقابل قام بتهميش الحواضر والتخوم بإهماله للتعليم والصحة والبنية التحتية، وأنشأ له عاصمة جديدة في مواطن قبيلته، وبذلك تجاوز الصراع بين التخوم والحواضر.

على مر التاريخ يوجد في المدينة من الإمكانيات ما لا يوجد في التخوم، والحال كذلك كان أبناء الحواضر لهم حظ أكبر لدخول المدارس والجامعات وتقلد الأعمال الحكومية أو الإنخراط في الأعمال الخاصة من التجارة والصناعة، فكان من أبنائهم المهندسين والأطباء والقضاة والمعلمين، مما أهلهم لمسك زمام الأمور في المدن وأجهزة الدولة وقطاع التجارة والأعمال، في حين أن إنتشار الأمية والفقر يحد من الفرص المتاحة لأبناء التخوم، لقد كان المجال المرحب به دائما لأبناء هذه الشريحة من الشعب، الإنخراط في الجندية أو الشرطة أو أجهزة الأمن الأخرى، وهي أجهزة تابعة للسلطة عوضا أن تكون تابعة للدولة، وهذا ما جعل التخوم موالية للنظام السابق إلى آخر لحظة، إضافة إلى دعوى أن مناصرة السلطة هو مناصرة للوطن ضد الأجنبي، بل أن هذا الفكر لا يزال له شعبية بين الكثير من قبائل التخوم.

في طرابلس أعلن العقيد المتقاعد خليفة حفتر إنقلابه على البرلمان في 14 فبراير 2014م، ورغم مناصرة بعض القبائل له إلا أنه لم يجد قاعدة شعبية تسانده، وكانت مؤسسات الدولة القائمة تناصبه العداء، حيث أصدرت قراراً من النيابة العامة بإعتقاله، فقفل راجعاً إلى الشرق الليبي، وهناك وجد التخوم أكثر تنظيماً بمساندة القوى الفيدرالية وأكثر حباً للخروج من الوضع الراهن، وأكثر تقبلاً لهكذا شخصية قوية تجمع الشمل وتنشر الأمن والأمان، خاصة وأن حواضر المنطقة الشرقية مثل بنغازي ودرنة والبيضا تعاني من إنهيار مؤسسات الدولة وتدهور الوضع الأمني وإنتشار الفساد المالي والإداري.

وجدت التخوم عامة والفيدراليون خاصة ضالتهم في العقيد المتقاعد خليفة حفتر الذي يشابه كثيراً القيادة (التاريخية) السابقة في الحزم والتسلط، وتم تنصيبه ليكون قائدا للجيش وزعيماً للتخوم، وبذلك كان الإصططفاف القبليي؛ العواقير والبراعصة وبعض الدرسة والحاسة والعبيدات في الشرق الليبي والزنتان والرجبان وقبائل ورشفانة في الغرب الليبي من ناحية كتجمع قبلي قومي معظم زعاماته من رجالات العهد السابق، رافضاً لقوة التغيير ومخرجاتها، متوجساً من تدخل الدول الغربية مرحبا بتدخل الدول العربية، من أهدفه القصوى إسترداد الأمن والآمان ولو بمبايعة طاغية آخر، أو إسترداد النظام السابق، مع التمتع بهامش المزايا المنعم بها العهد السابق، مثل وجود بعض أفراد القبيلة في أجهزة الدولة العليا.

بالمقابل هناك الحواضر من مختلف المدن يتزعمها الإسلاميون، وتحركهم الأيديولوجيا وليس القبيلة، مثل سكان وسط بنغازي وطرابلس ومصراته والمدن الأمازيغية بجبل نفوسة والساحل، ولقد إنظم إليهم بعض الشباب والرموز من قبائل التخوم لأسباب أيديولوجية دينية، مثل العريبي والزهاوي في الشرق الليبي، وصلاح البركي وصلاح وادي  في الغرب الليبي.  يمثل الإسلاميون العديد ممن عانوا الأمرين في العهد السابق وأصبحوا طواقين للتغيير، وسلتطهم لا تتجاوز الأجهزة العليا في الدولة. خلال تواجدهم في المؤتمر الوطني أو الحكومة كان لهم أخطاء قاتلة مثل إهدار المال العام في ملف العلاج وملف التعويضات لأنفسهم، وسؤ فهم لإدارة مؤسسات الدولة، وإهمال وضع حلول حقيقية لمشاكل المواطن، والإهتمام بالأمور الشكلية الثانوية مثل محاربة الربا والفصل بين الجنسين في المدارس، وإزالة القبور من المساجد، ومحاربة البدع بل وعدم إعتراف البعض المتشدد منهم بركائز الدولة الحديثة مثل الإنتخابات والنهج الديموقراطي.

لا شك أن المنظومة القبلية في الشرق الليبي هي منبع وحاضن للنهج الفيدرالي وأغلب قياداتها من هذا الهلال الذي يشعر أكثر من غيره بالتهميش، ولقد عملت هذه القيادات على تحشيد العامة بدعاوي واهية مثل أن برقة إمارة وإقليم قبل إستقلال ليبيا ويجب أن تعود كذلك، وأن وفرة النفط بالشرق الليبي أكبر من الغرب، وأن الفيدرالية ستتمكن من توزيع الثروة على عدد قليل من السكان، وأن مؤسسات الدولة ستكون جميعها قريبة ولا تحتاج إلى سفر.

هذه المنظومة القبلية للتخوم لها عدة مساوئ والقليل من المزايا، من مزاياها أن التفاوض في جميع القضايا الجنائية أو العسكرية في ساحات القتال تتم عن طريق القليل من وجهاء القبيلة مما يسهل عملية فض المنازعات الشخصية بسهولة، أما مساوئها فحدث ولا حرج، منها مناصرة المجرمين والقتلة وتعطيل قوانين الدولة بسبب إنتمائهم للقبلية، ومنها جلب المكاسب الخاصة والفئوية رغم معارضتها لقوانين الدولة، وهو ما جعل مدراء الإدارات من التخوم بين سندان قوانين الدولة ومطرقة الإنتماء الإجتماعي إلى القبيلة.

في طرفة متداولة أن أحد زعماء القبيلة أهدى خروفا مدبوحاً إلى مدير شركة نفطية، ثم طلب منه أن يمنح لقريبه إجازة لمدة شهر، فلم يوافق المدير بسبب عدم وجود إجازات للمعني، فرد عليه (يا خسارة الحولي اللي في بطنك)، وهو ما يؤكد أن الإدارة الحديثة ومنظومة الإنتماء القبلي لا توافق بينهما.

هذا عن الصراع في أهم مدينتين بالدولة الليبية طرابلس وبنغازي، ولكن لا يخلو المشهد عن صراعات أخرى ثانوية مشابهة، فجضران بإنتمائه القبلي وتلهفه للمال إستطاع أن يغدق الهدايا (سيارات جديدة) على أبناء وشيوخ المغاربة بالمنطقة الوسطى ويكون منهم جيشاً بإسم حرس المنشأت النفطية، أوقع الدولة في خسائر تقدر ب 40 مليار دولار بسبب توقف التصدير من المواني الرئيسية، وإستطاع بالمال الفاسد تنصيب أخيه عميدا لبلدية أجدابيا، وقام بإرغام الحكومة لتعويضه بما يقارب 250 مليون دينار ليبي.

لا يختلف الأمر في سرت التي تتناقل أخبارها في إذاعات العالم بأنها وكر الدواعش في شمال أفريقيا، في الحقيقة أن رجالات العهد السابق عندما خسروا معاركهم في الجنوب الليبي خلعوا البزة العسكرية الخضراء ولبسوا الجلباب الأبيض وأطالوا في لحاهم وأصبحوا قيادات إسلامية تناشد المتطرفين الإسلاميين من تونس والجزائر للإنخراط إليهم، ومع التمويل الخارجي من رجال العهد السابق، أصبحت سرت التي دافعت عن أبنائها المتطرفين قبليا، رهينة لأخطبوط الأزلام والمتطرفين.

من الواضح أن الإشكالية في المجتمع الليبي هي إشكال ثقافية تحتاج إلى جهد كبير لإيجاد نوع من التجانس والتوافق على مرتكزات الدولة، وما زاد من الأمر سؤا هو إنهيار للمنظومة القديمة وبداية مسيرة البحث عن منظومة جديدة قد تأخد وقتاً قبل أن تستقر الأمور، فمثلا الدستور يعتبر منظومة توافق لهيكلية الدولة ونظام الحكم تعمل على تقريب وجهات النظر بين التخوم والحواضر، وإنتشار الصحافة المقرؤة والمكتوبة والإهتمام بالتعليم وسائل مهمة، وتربية الجيل الجديد على قيم العصر، مثل المواطنة الفعالة، ونشر قيم الحرية والعدالة والمساواة، والمشاركة في الشان العام، ونبذ الجهوية والقبلية، هي مشاريع كبيرة تحتاج إلى خطط وبرامج قد لا تكون ليبيا على إستعداد للقيام بها حاليا.

 

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

اترك تعليقاً