المدن والقبائل المجرمة

المدن والقبائل المجرمة

«التعصب: جنون كئيب، فظ، وهو مرض يصيب العقل ويعدي كما يعدي الجدري، وهو داء مقيم يصعب شفاؤه» هكذا وصفه فولتير ويضيف بأنه: «لا القوانين ولا الدين تكفي لمكافحة هذا الطاعون الذي يصيب الأنفس. بل أن الدين ينقلب سماً ناقعاً في الأدمغة المصابة بالتعصب، عوضاً أن يكون بلسماً لها، والقوانين عاجزة كل العجز إزاء هذا السعار، فالمصابون بداء التعصب لا يفهمون لغتها ولا يدركون مضمونها، وليس من قانون يحكمهم إلا حماسهم واندفاعهم، وكل متعصب مكار لا وجدان له، كما أنه قاتل يغتال عن نية حسنة في سبيل قضية يظنها صالحة». لعل كلمات فولتير هذه تنير جانباً مهماً من المسكوت عنه في الأزمة الليبية، بعد أن استشرى في البلاد وباء التعصب وبكل أشكاله، وأصبح يهدد استمرار وجود هذا الكيان.

مدن وقبائل ليبية بأسرها يفتك بها داء التعصب، وتحولوا إلى حشود بشرية مجنونة تمتلك كل أنواع الأسلحة، وأصبحت القبائل والمدن «ميليشيات مسلحة» بكل فئاتها ومكوناتها، بنسائها وشبابها وشيوخها وأطفالها أيضاً، فمنذ 2011 بدأ التحريض والتحشيد الإعلامي وتحويل تلك المدن والقبائل إلى ميليشيات مدججة بالأسلحة وبدأت تتشكل «المدينة الميليشيا»، أو «القبيلة الميليشيا»، وأصبح واجباً مقدساً لكل أفراد القبيلة أو المدينة الانخراط ضمنها كل حسب مهمته، ووصلت إلى إغلاق القبيلة أو المدينة مدارسها وجامعاتها وأسواقها لأن حالة الاستنفار والتأهب للحرب في مواسم الغزوات لا تستثني أحداً من أفرادها، وفي نهاية كل حرب يستقبلون جثث أبنائهم بالزغاريد وإطلاق الرصاص، وكأن أولئك الشباب لم يأتوا لهذه الحياة إلا ليكونوا قرابين للمدينة أو القبيلة الإله، وهذا يؤكد قول فولتير: «إن المصابين بداء التعصب لا وجدان لهم».

خمس سنوات وأبشع الجرائم يتم ارتكابها من قبل عصابات لا تخفي انتماءها لمدن وقبائل بعينها، بل وتفاخر بكتابة أسماء مدنها على مدرعاتها ودباباتها، وجرائمها لا تستني أحداً، من اقتحام لمؤسسات الدولة واعتقال المسؤولين وإصدار القرارات والقوانين بقوة السلاح، وقطع الطرق ونصب نقاط التفتيش، والاعتقال على الهوية وارتكاب جرائم القتل الجماعي وتهجير وغزو المدن والقرى الليبية الأخرى، والاستيلاء على المؤسسات الحيوية ونهب المصارف وإيقاف تصدير النفط، الذي تسبب بالانهيار الاقتصادي للدولة، وكذلك توفير الحماية للعصابات والتنظيمات الإرهابية المتطرفة…، كل هذه الجرائم وأكثر لا زالت تحدث، وبلا رادع، وستستمر بالتأكيد، ولن تستطيع أية حكومة أو سلطة رسمية إيقاف أو ردع تلك المدن والقبائل المجرمة، ما لم يتم القضاء على أسباب التطرف والتعصب الذي تعانيه تلك المدن والقبائل.

هذه ليست دعوة للمحاكمة أو الإدانة لتلك المدن والقبائل، فالحشود القبلية المجرمة تدرك جيداً أنه لا يمكن محاكمتها مهما كانت بشاعة جرائمها لأنها تحتمي بكثرتها؛ ولكن، المهم، هو كيفية العمل على تفكيك تلك الحشود البشرية المتعصبة والمتطرفة ونزع سلاحهم، وأيضاً العمل على إيقاف المحرضات الإعلامية التي تقوم بتحشيدهم وتتلاعب بعقولهم وتملؤهم بالذعر، والخوف من تفكك قطعانهم البشرية التي تمنحهم تلك القوة العارمة لسحق وتدمير كل مَن يختلف معهم دونما أدنى تفكير في العواقب الوخيمة لأفعالهم على البلاد بأسرها.

لقد دفع التعصب والتطرف القبلي ليبيا إلى مستنقع خطير يهدد فعلاً استمرار وجودها ككيان موحد، وليس مبالغة ما أشار إليه الكاتب الليبي «منصور بوشناف» في مقاله «القبائل المتربصة» بقوله: إن «..القبائل الليبية تقف الآن كما وقفت دائماً ضد تكوين كيان بديل لها هو الدولة، وتصر على بقاء دولتها الخاصة، بثقافتها واقتصادها وسياستها وحدودها المرسمة بطابوهات العصر التركي العتيد….، ولقد ظلت القبائل تتربص بعدوها الأول (الدولة) عبر التاريخ الليبي، وتجد الآن فرصتها لإعلان دولها، إن لم ينتبه الليبيون لخطورة ذلك ويقاوموا هذا التيار الجارف الذي يجتاح كل شيء تحت شعارات الثورة والوطنية والمصالح والحقوق… فإن العالم سيتعامل معنا ككيان مفتت، وسيؤسس علاقاته بنا على هذا الأساس وسيرسم خططه لنا كقبائل يمكن الاستفادة من صراعاتها ومصالحها المتضاربة وإن حافظ إلى حين على قشرة هشة لها شكل الدولة ومؤسساتها».

وهذا ما يحدث فعلاً، فقد تقاسمت دول العالم القبائل والمدن الليبية، ولا تجد القبائل والمدن حرجاً في إعلان ولائها لدول عربية وأجنبية، بل إن بعض الدول الإقليمية أصبحت تفرض تأشيرات الدخول والخروج على قبائل ومدن ليبية معينة وتعفي قبائل ومدناً أخرى…! ولا يخجل زعماء بعض المدن والقبائل في التوجه لعواصم عربية وعالمية لتلقي الدعم المالي والعسكري، وعقد اجتماعات المصالحة والهدنة في العواصم الأجنبية، أما ليبيا فبالنسبة لهم لا تصلح إلا ساحة للاقتتال والحرب والغزوات القبلية. ولم تتردد بعض المدن والقبائل في استقبال وفود وسفراء دول العالم لعقد الاتفاقات والمحادثات كأية دولة مستقلة.

لقد ثبت خلال هذه السنوات أنه ليس هناك عدو حقيقي لليبيا يستمر في تدميرها وتخريبها غير هذه المدن والقبائل التي تمكَّن منها جنون التعصب والتطرف القبلي. وهم وحدهم مَن يتحكم بمصير هذا البلد ومستقبله، ومَن يقرر بأن يكون أو لا يكون. والمثير للشفقة والأسى فعلاً في حالتنا الليبية أننا وطيلة خمس سنوات ننتظر حلاً متعقلاً من متعصبين مجانين لا عقل لهم. فتلك القبيلة أو المدينة الليبية التي تغضب كثور هائج رافضة تشكيل حكومة ما، لأنها لم تأخذ نصيبها أو «قرعتها» – حسب تعبيرهم – من الحقائب الوزارية وتفرض بالفعل رأيها، لن تقبل أبداً بالانصياع والإذعان لأية سلطة طالما تملك قطعاناً بشرية شرسة توظفها لفرض رغباتها وإملاءاتها. لذلك لن يكون هناك حل ما لم يتم تفكيك تلك الحشود البشرية القبلية وتستعيد آدميتها وحريتها وانتماءها وولاءها لليبيا وليس لقبيلة أو مدينة أو عشيرة.

القبائل والمدن ككيانات سياسية وعسكرية لا يمكن أن يكون لها أي دور إيجابي في هذه المرحلة عدا ارتكاب مزيد من الجرائم ومزيد من التشرذم والانقسام. وهي بالفعل أصبحت كيانات مستقلة منافسة بل وعدو لليبيا الكيان الموحد. وأولئك المدافعون عن القبائل والذين يعولون عليها ليسوا في الحقيقة إلا واهمين أو متورطين في فخ التعصب القبلي والجهوي بمَن فيهم مَن يقدمون أنفسهم كنشطاء ومثقفين ونخب سياسية.

ومَن يوصفون ب ـ«النخب المثقفة» الذين انساقوا خلف قبائلهم ومدنهم وتحولوا إلى مدافعين شرسين عما يصفونه بحقوق قبائلهم أو مدنهم أو أقاليمهم وعشائرهم، فإن العَالِم أو المثقف من هؤلاء وكما وصفه عالِم النفس غوستاف لوبون: فإنه ربما يكون إنساناً متعقلاً ويتمتع بكفاءة عقلية وهو فرد منعزل عن القطيع وقبل أن يفقد استقلاليته، وكل مزاياه العقلية، ولكن، ما أن ينخرط ضمن الحشود المتعصبة حتى يصبح مقوداً بغريزته وبالتالي همجياً، ويتصف بعفوية الكائنات البدائية وعنفها وضراوتها وحماستها، ويصبح عرضة للتأثر بالكلمات والصور التي تقوده إلى اقتراف أي عمل ولو كان مخالفاً لمصالحه الشخصية.

إن الفرد المنخرط ضمن أي قطيع بشري متعصب هو حسب وصف لوبون «عبارة عن حَبة رمل وسط الحبات الرملية الأخرى التي تذروها الرياح على هواها». ولا ننكر أن كثيراً من هؤلاء ممن أُصيبوا بداء التعصب بكل أشكاله قد خسرتهم ليبيا بعد أن ابتلعتهم قبائلهم ومدنهم أو جندتهم الجماعات الدينية والعقائدية المتعصبة لخدمة مشاريعهم.

لذلك، ندعو تلك النخب المثقفة والمتعلمة والشباب الذين وقعوا في أسر التعصب القبلي والجهوي، بأنهم إذا وجدوا فرصة سانحة للتخلص من القطيع الأيديولوجي أو القبلي أو المليشياوي الذي يحشرون أنفسهم فيه فلا يترددوا في الفرار والنجاة بجلدهم وعقلهم…، صحيح، أنهم سيخسرون ذلك الشعور العارم بالقوة الذي كانت تمنحهم إياه تلك الكثرة أو القطيع البشري الذي ينتمون إليه، ولكنهم، سيستعيدون وعيهم، وحريتهم، وإنسانيتهم، وينقذون وطنهم…! فإن الحرب التي علينا خوضها الآن هي حرب تفكيك هذه القطعان الجهوية، والقبلية، والدينية والأيديولوجية التي تتربص بالوطن!، فلنحاول الإفلات من قطعان المدن والقبائل المتعصبة وإعلان الولاء للوطن.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

التعليقات: 1

  • الليبي عبد الله

    jمع احترامي لكتب المقال اﻻ انه قد وقع في عدة اخطاء جوهرية. اذ ااعتبر بوجود مدن في ليبيا وهذا غير صحيح باعتبار معاشةمعاشة بليمعام ان الحقيقة الواقعية المعاشة بليبيا ﻻ توجد مدن باستثناء طرابلس المحاصرة من الملشيات القبلية.كما ان الكاتب اقحم المراة والطفل اليبي في هذا الصراع القبلي المقزز.وهذا غير صحيح فالمراة الليبية لم تشارك في هذا العار التاريغي الغير وطني.ناهيك بان الكاتب لم يتطرق الي اﻻسباب والعﻻج .حصيلته باختصار هذا المشكل جاء نتجة لعقم لدولة الليبية من العناصر الوطنية المثقفة قبلت بانشاء الرجعية الليبة العميقة النظام الرجعي الليبي )نظام الحزب الواحد (حصيلته ان النظام الرجعي الملكي قد الغي نظام اﻻحزاب التي اتت به الي الحكم وطبق نظام الحزب الواحد القبلي.ورفض انشاء ديتور حديت مبني علي الحرية ااحزبية) الوطنية وصنع نظام الحزب الواحد االقبلي.ويكذب علي الشعب ويقول ان ﻻنحكم حتي سقوطه ..
    ثم جاء نظام 69 الرجعي.وطبق نفس نظام الملك نظام الحزب الواحد.وقال بالحرف الواحد.من تحزب خان حتي سقوطه.ما يعرف بالرجعية الثانية.ثم جاء نظام فبرائر الر الرجعلي.وطبق نفس نظام المقبور القبلي.ورفض فتح الحرية الحزبية.وارسي معالم القبلية.ورفض الولة الوطنية. اخيرا الحل.ان الوﻻء لمبدا الوطنية كمبدا هو وﻻء غير معدوم.وبالتالي ﻻبد ان نقول الحقيقة لكونها حقيقة.وهي ﻻبد من نزع السﻻح من الكفة وهذا ﻻ يتاتي اﻻ بكمال مهمة اﻻمم المتحدة المنصوص عليها بالفصل السابع.تم بعد ذلك ينشي دستور حديث يبني علي الحرية الحزبية.وذلك بالغاء نظام الحزب الواحد.ﻻنه ﻻ يوجد دستور حديث بالعالم بدون روح وهي اداه الستور الحديث (الحرية الحزبية)ﻻن اي دستور بدون حرية حزبية يعتبر معدوما وﻻ وجود له.وذلك للحصول علي شرعية الحكم.بدﻻ عن ما يسمي بالشرعية الثورية (شرعية الخيانة).والسﻻم عليكم ورحمة الله وبركاته .

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً