من وراء الموت

من وراء الموت

تبدأ حكايتي بنهايتي، برصاصة رخيصة تنتزع من جثتي روحها، وعن طفلي تنزع الابتسام، مؤلمة هي ‏ومريحة في آن، تخترق صدري وتدفعني إلى الوراء فأميل وأبدأ في السقوط، عجيب ذلك الشريط المكرر ‏الذي تراه أمام عينيك ساعة الردى ..‏

‏***‏

طفل أنا في السادسة من عمري، أجلس متحمساً على طرف السرير المبعثر وأمد رجلي لأمي لتلبسني ‏الحذاء، حقيبة يوم الدراسة الأول جاهزة، تحوي دفاتري وأقلامي وتفاحة، يأخذني والدي من يدي ويدخلني ‏إلى عالم المدرسة آملاً أن أتعلم ما يزيدني يقيناً بأن الله حق .. ‏

‏***‏

أميل إلى الوراء سقوطاً فتتكشف لي سماء البريقة بلونها الصباحي المميز .. أسقط على الأرض الترابية ‏المليئة بالحصى، يؤلمني السقوط أكثر مما تؤلمني الرصاصة .. يتناثر الغبار من حولي و يصيح حسين ‏بلهجته الدرناوية المميزة “شهييييييد .. الله أكبااااااار” .. يهرع إلى الشباب ويشرع أحدهم في تمزيق ‏سترتي .. و من خلفي أسمع أحدهم ينتحب .. أتراه سراج؟

‏***‏

تتساقط قطرات الدم مني فأنظر إلى ساقي المجروحة بتألم، لعينة عادة لعب الكرة على ساحات الاسفلت، ‏ولعين هذا الألم الذي يعتصرني، ملامح الرجولة المبكرة الظاهرة على وجهي ونظرات الرفاق تفرض ‏علي أن أنهض متظاهراً بعدم المبالاة .. يا لإرهاب المراهقين ..‏

‏***‏

بمستشفى الجلاء .. يفتح باب الثلاجة الباردة ويسحبني أحدهم .. “هذا ولدك يا حاج؟” .. ” لا‎ ‎‏ لا ولدي قالوا ‏في التلاجة رقم 19 ” .. “هذي تلاجة 7 يا حاج .. غير شن جيبك هنا ؟؟” .. يقفل باب الثلاجة بعنف .. ‏يسود البرد والظلام مرة أخرى .. اللعنة !! .. من أخذ ولاعتي ؟

‏***‏

ألملم دفاتري ومفتاح السيارة، أمازح أحد الزملاء وأبحث عن قلمي الذي يبدو أنه قد سرق للمرة الألف، ‏تعلم اللغة الانجليزية صار ترفاً و غزواً ثقافياً هذه الأيام، يفتح الباب فإذا بها تدخل لتقلب عالمي رأساً على ‏عقب، تلبس وشاحاً داكناً و الكثير من الحياء، جمالٌ من النوع الذي يدفع أي شاب لأن يقلب كوب القهوة ‏ارتباكاً، وسحرٌ يخبرني بأن الدنيا لم تعد كما كانت من قبل .. ‏

‏***‏

يحمل بعضهم التابوت على كتفه ويتمطى .. يبدو أن الزحام شديد والتدافع أشد .. و يبدو أيضاً أن المشيعين ‏في المؤخرة أقصر منهم في المقدمة فالتابوت مائل للخلف .. “لا إله إلا الله .. والشهيد حبيب الله” .. يبتهل ‏البعض في تأثر واضح.. تنحني السماء لتحيتي وتفوح رائحة الورد من التراب .. يصحو الموتى من ‏قبورهم فالضيف مهيب و فوق الاعتياد .. تتلى سورة يس بطعم الدموع و يبكيني الوطن .. يطلق بعضهم ‏مئات الأعيرة النارية في الهواء على الأرجح، الصوت عالٍ و مزعج .. في ليبيا، الطريق إلى الجنة مليء ‏بالضوضاء.. يمشي الموكب في تسارع و كأنهم يستعجلون دفني، أبسبب الشمس الحارقة؟ .. أسمع بطرف ‏أذني ابن الجيران يحدث صديقه عن الفتاة التي تعرف إليها البارحة في “بازار دعم الثوار” .. ياله من ‏صفيق !!‏

‏*** ‏

‏”الله أكبر الله أكبر .. أشهد أن لا إله إلا الله” .. يؤذن والدي في أذن طفلي الأول .. بمزيج الحب و الرهبة ‏والسعادة تخنقني الدموع فألازم الصمت و أنظر إلى زوجتي المنهكة والسعيدة في ذات الوقت .. أغرق في ‏عالم موازٍ لا أنتمي إليه، وفي وطن لا أنتمي إليه، وأخاف أن يكبر طفلي في بلادٍ أخشى على نفسي من ‏ظلمها .. تنتشلني زوجتي من همومي بسؤالها “نسموه جهاد؟” ..‏

‏***‏

غريبة زاوية النظر من وسط القبر نحو أشخاص يرصون ألواح الاسمنت فوقك ليمنعوا وصول الشمس ‏إليك إلى الأبد، تسمع المزيد من الرصاص و الهتاف عن ليبيا فتعرف أنك تسمعه للمرة الأخيرة .. “جيب ‏البالة” يصيح زوج اختي في محاولة منه للتظاهر بالشدة ورباطة الجأش و احمرار عينيه يشي بالعكس .. ‏ينهار أبي على القبر ويبكي .. ينتحب .. تسحبه أذرع كثيرة إلى الخلف وتبارك له شفاعتي .. ومن خلفهم ‏أرى جهاد يقف وحيداً حائراً .. للمرة الأخيرة ..‏

من وراء الموت ..‏

م. أحمد بن موسى

نشر بمجلة “الليبي” بعدد يناير 2012‏

Follow me on twitter: @Ben_Mussa

ahmed.benmussa@yahoo.com

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً