ليبيون من الطلح والرتم

ليبيون من الطلح والرتم

“اتركوا عنكم الرجل وتقدموا خطوة أو خطوتين للأمام عن هذه المراوحة”. هذا أول كلمات قالها لي وأنا أصلح مكاناً أجلس عليه عند باب بيته.

وجدته على كرسييه في جلسته المعتادة بعد صلاة العصر أمام الباب، وحين رآني قادماً نحوه من أول الشارع اشرأب عنقه وعلق نظره بي وصار ينتظرني، حتى إذا وصلت واقتعدتُ حجراً سمعته يقول لي “اتركوا الرجل وتقدموا خطوة للأمام عن هذه المراوحة” ثم صار يتكلم معي كما لو أنني “أحمد امعتيق” أو كواحد من جماعة المجلس الرئاسي. وليست هذه المرة الأولى التي يتحدث معي بهذه الطريقة، فهو بطبعه حين يُبدي وجهة نظره في مشكلة ما يجعلك كما لو أنك أنت المسئول عن هذه المشكلة، ويضعك في خانة المعرقل ويطرح عليك وجهة نظره بأنها الحل الوحيد . لذلك لم يفاجئني منطقه، لكن الذي فاجئني هو التغيير الذي طرأ على تفكيره حين ساورتني شكوك أنه يتحدث عن “خليفة حفتر” فلم أعلق ولم أرد عليه وإنما بقيتُ صامتاً أحدق على نقطة صغيرة في الجدار المقابل لي حتى تأكدت من صحة شكوكي.

مذ عرفته واستأجرتُ المنزل القريب منه في أول الشارع كان دائماً لا يرى سبباً في نكبات هذه الأمة وانحطاطها سوى العسكر، لكنه اليوم يستثني خليفة حفتر منهم ويدير وجهه لي مرة بعد مرة ويتحدث كما لو أنني أحمد امعتيق . وكان أحياناً وهو ينظر أمامه يخال لي كما لو أنه يحدق معي في ذات النقطة على الجدار المقابل، وكان ذلك يُشعرني انني قريب منه.

حتى ساعة وضع يده على كتفي ليقول لي “لو بقيَّ الرجل في مكانه فهو ليس سيئاً بالشكل الذي يتصوره البعض ولا يُشبه القذافي إلا في بدلته العسكرية من بعيد، وجودة الرجال ليست في نوع وحجم البدل التي يلبسونها بل في نوع وحجم القلوب التي يحملونها ويتنقلون بها من مكان لآخر”.

شعرتُ بيده تهز كتفي وبالنقطة التي كانت صغيرة على الجدار كما لو أنها صارت تكبير، في حين طفق هو يؤكد بكلماته وسبابته الأخرى التي تتحرك في الفراغ أمامنا أن استثناء حفتر اليوم ليس استثناء في شخصه ولا ليس بالضرورة أن يكون الاستثناء محبة فيه بل هو بالضرورة استثناء ومحبة للبيئة الحاضنة له، وحين سألته عن البيئة الحاضنة له عرفتُ منه أنها بنغازي، وإذا صح هذا الكلام من جاري عن بنغازي كبيئة حاضنة، فإنني قد أشاطره الرأي ذلك أن بنغازي مدينة لا تكذب.

كنتُ أومئ له برأسي وأشعره أنني قد أشاطره الرأي حين أضاف. “لو تفرَّس خصومه في وجهه جيداً لرأوا خصالاً أخرى غير الخصال البدلة العسكرية، ولعرفوا أن الرجل لا يطمح في الكثير أو لا يطمع، وأن الشبه الذي تُظهره عليه بدلته لا ينبغي أن تشوه حقيقته، ولا ينبغي حتى لتاريخ البدلة العسكرية الأسود معنا أن يُشكل عقدة تاريخية لنا”.

لم اقاطعه خاصة حين طفق يحكي عن خليفة حفتر وكأنه يعرفه عن قُرب. لأعرف منه أن أخيه محمد كان ضابطاً صغيراً تحت إمرته في حرب السويس 1973، ولا يذكر يوماً أنه وصفه أو لوَّنه بألوان باب العزيزية، بل أن أخيه محمد كان يقول عنه كلاماً أبعد ما يكون عن هذا الباب . ثم توقف عن الكلام وأخذ من طفله سفرة الشاي التي ظهر بها الطفل من داخل البيت، لأغتنم أنا الفرصة وأقول له لقد سئمنا السياسة والحديث فيها ويا ليتك تغير هذا الموضوع، فوضع البراد بعد أن رفعه ليصب الشاي وقال “على المدن التي ضحت بالأمس أن تضحي اليوم أكثر وتقبل بـ حفتر حتى لا تذهب تضحياتها الأولى مع الريح” ثم أدار وجهه ناحية سفرة الشاي ورفع البراد عالياً وانشغل في صب الشاي.

الشيء الجديد في تلك الجلسة والمفيد بالنسبة لي وربما يكون مفيدا حتى لتلك المدن التي أعطت أغلى ما عندها في 2011، هو أن صناعة الشعوب تتطلب وقتاً، وأن في ليبيا اليوم لا يوجد شعب وإنما توجد صحراء بمساحة 40 عام مربع لا تصلح إلا للطلح والرتم وقُطَّاع الطرق، وأن تغيير وجه تربة هذه الصحراء واستبدالها بأخرى خصبة كي تُنبت بدائل عن الطلح والرتم وعن قُطَّاع الطرق سوف يحتاج وقتاً، وأنه ما علينا اليوم إلا أن نفكر بواقعية ونتحسس جيداً الأرض والأرضية التي نقف عليها، ولا نوهم أنفسنا بأننا امتداد طبيعي لتربة تونس الخصبة، لالا فما نحن إلا ليبيون من الطلح والرتم.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً