الفيدرالية وأزمة نظام الحكم في ليبيا

الفيدرالية وأزمة نظام الحكم في ليبيا

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

كانت الإحتفالات بمناسبة العيد الخامس لثورة السابع عشر من  فبراير عارمة في الغرب والجنوب الليبي حيث تناسى الجميع جراحهم وتعالوا فوق أحقادهم من أجل الوطن، وتم تنظيم الإحتفالات بصورة عفوية شعبية لم تكن للحكومة دور يذكر فيها، بل أن الكثيرين منهم لهم شعور بان الثورة قد قامت وأسقطت حكم طاغية رزح على صدورهم لأربعة عقود، إلا أن ما تلا ذلك من حروب وقلاقل لا يمت للثورة بصلة، بل هو نتاج صراعات مذهبية وقبلية وجهوية تريد أستغلال الظروف لصالحها، في غياب النخبة الواعية، فكان ما كان من الفوضى العارمة.

بالمقابل كان الإحتفال فاتراً أو معدوما في الشرق الليبي رغم أن بنغازي شرارة الثورة ومقر قيادتها في الأيام الأولى وذلك لعدة أسباب منها ما تعانيه من حروب طاحنة وإنقسامات عميقة في بنية المجتمع فضلا عن عدم الرضاء عن الوضع الحالي بسبب العدد الهائل ممن قضى نحبه ليس ضد االحكم المباد بل بين أبناء المدينة الواحدة. هذا جميعه كان له الأثر السئ على حياة المواطن، من  هدم المنازل وتهجير الأسر وتوقف الدراسة ونقصُ في المواد الأساسية.

يتسال المرء لماذا تتباين الحياة بين جناحي الدولة الواحدة؟ ولماذا كان هذا الإنقسام الكبير بين شرق البلاد وأجزائها الأخرى؟ الإجابة الجاهزة عند معظم ناشطي المنطقة الشرقية والكثير من رجالات العهد السابق أن السبب هو تزعم الإسلام السياسي للمشهد الليبي ويعنون بذلك جماعة الإخوان المسلمين بالتحديد، نعم جماعة الإخوان المسلمون متواجدون في المشهد الليبي منذ نهاية الستينات من القرن الماضي، وأنهم الأكثر تنظيماً من القوى الأخرى بسبب نضالهم الطويل ضد الحكم السابق في داخل ليبيا وخارجها، وأنهم الطبقة المتعلمة في المجتمع، وأنهم موزعون على جميع المدن الليبية، وهذه ميزة الإخوان كجماعة ثم كحزب، والتي توحد بين محمود الناكوع الزنتاني وعمر النامي النالوتي وهويسة الزاوي وعلى أبوزعكوك البنغازي ومحمد المقريف الإجدابي وصوان المصراتي، وهذا تجسيد لفكرة الحزب الذي يجمع أفراد المجتمع من كل الطوائف ومن كل المدن والمناطق، ورد سبب القلاقل والحروب إلى جماعة الإخوان لا يعدوا أن يكون صدى للإعلام بعض الدول العربية المجاورة، ومن يدور في فلكها، وهو لا يفسر عدم وجود صراع في الغرب والجنوب الليبي الأكثر تنوعا عرقياً ولغوياً.

أما عن النزعة القومية، فقد ضعفت كثيراً في الشرق الأوسط أولا، وإنهارت في ليبيا بعد إنهيار النظام السابق، عدا بعض الرافضين للتغير من رجالات العهد السابق.

عندما تفشل الدولة في القيام بواجبها نحو شعبها في تأمين سبل الحياة الكريمة من خلال برامج تنموية، يشعر المجتمع (أي كان مدينة أو منطقة) بالتهميش، فيعود أدراجه إلى حاضنة شعبية أقل تحضراً من فكرة الدولة وهو الإقليم أو القبيلة أو الجهة، وهو ما حدث بالفعل للكثير من المناطق الليبية بعد الإنهيار الكبير للنظام الشمولي الذي إعتمد على الحديد والنار للم شمل الدولة الليبية لعقود طويلة.

إن الحراك الذي أودى بالشرق الليبي إلى حافة الهاوية بالتأكيد هو الحراك الفيدرالي مدعوماً بألة إعلامية يمتلكها بارونات المال الفاسد وإعلام عربي موجه له مأربه، هذا الحراك لا يوجد له مثيل في ليبيا ولا في دول المغرب الكبير، بل ولا في الدول العربية جمعاء، والغريب أن الأمازيغ رغم ما يمتلكونه من مقومات المطالبة بالفيدرالية (مشابهة للأكراد في العراق)مثل لغة أمازيغية غير عربية ومذهب إباضي غير مالكي  وأرض ممتدة لألف كم، إلا أنهم لم يطالب أحداً منهم بالفيدرالية، ولم يتبنى مثقفيهم النهج الفيدرالي رغم التهميش والتنكيل والإضطهاد والطمس القسري لرجالهم ولتراثهم لستة عقود طويلة.

الحراك الفيدرالي تعاضم أمره بعد تمكنه من حصد معظم مقاعد مجلس النواب في الشرق الليبي بسبب إمتناع الكفاءات في تلك المدن عن ترشيح نفسها في الوقت الراهن، ولقد إنتهجوا في تعظيم مكاسب (برقة) بالتلويح بالإنفصال في كل حين، حيث تم إحتضان حكومة بالبيضاء برأسة رئيس الوزراء عبداللة الثني، وإفتتح مصرف مركزي جديد وتم إنشاء مؤسسة جديدة للنفط، ولكن الجهود الدولية المناعة لإنقسام الدولة الليبية حالت دون تفعيل المؤسسات السابقة، فاصبحت حكومة البيضاء جزء من المشكلة وليس الحل.

طرح الفيدرالية من قبل أعيان قبائل المنطقة الشرقية بليبيا لم يكن وليد اللحظة بل له جذور تعود إلى ما قبل إعلان الإستقلال،  أول بوادرها ظهور الحركة السنوسية في برقة وإمتدادها للجنوب، وتزعمها للإصلاح الديني أولا ثم السياسي لاحقاً، يقابل ذلك رفض الهيمنة السنوسية في الغرب الليبي.

لقد زرع الإنجليز كذلك في فترة الوصاية بذور الإنشقاق بين المنطقة الشرقية والأجزاء الأخرى من ليبيا، أبرز هذه المجهودات ما قام بها الدكتور إيفنز بريتشرد الذي يشغل وظيفة سياسية بالإدارة البريطانية بعد طرد الإيطاليين من بنغازي، وقد أمضى هذا الرجل سنتين صرف جلها بين البدو الرحل كما جاء في كتابه (The sanusi cyrenaica) – برقة السنوسية –  في سنة 1949م، حيث قال “إن إنحدار الصحراء إلى البحر عند خليج سرت خير فاصل لبرقة عن طرابلس، وأضاف أن برقة كانت خاضعة لمصر والإغريق ثم بيزنطه بينما إرتبطت طرابلس بقرطاجة ثم الرومان، ثم يستطرد بأن الحدود الإدارية لبرقة يجب أن تمتد من وادي هراوة إلى واحة زلة، ولقد قام الأستاذ مصطفى بعيو بالرد بإستفاضة على هذه الإدعاءات في كتابه “دراسات في التاريخ اللوبي” الصادر في سنة يوليو 1953م.

قبل الإستقلال بقليل إستطاع الملك بمساندة أعيان برقة تعميق الفرقة بين المنطقة الشرقية والمناطق الأخرى بليبيا عن طريق إملاء شروط في دستور البلاد منها إزدواجية وظيفية، فالملك أمير برقة وملك البلاد وأن الملكية وراثية، وإزدواجية العاصمة؛ طرابلس وبنغازي، وهو إحياء لتراث مناطقي لم تسلم ليبيا من شروره حتى الآن.

حتى يستثب الأمر للسلطة الجديدة أمر الملك بحل الأحزاب السياسية مع إستمرار نظام الولايات، وكان التطاحن على أشده بين سياسيو الولايات الثلاث لينتهي يوم السادس والعشرون من ابريل سنة 1963م حيث تم إلغاء النظام الفيدرالي (الإتحادي) لتصبح المملكة المتحدة، ويعود ذلك إلى تعارض النظام مع المصالح الوطنية ومصالح الكثير من الدول المتعاونة مع ليبيا، وخاصة في مجال النفط.

خلال فترة حكم القذافي صمت الجميع أمام الحكم الشمولي، حيث إستطاع خلق زعامات أعيان ووجهاء جدد كقيادات شعبية لها بعض المزايا الشخصية (والتي لا علاقة لها بالنظام السياسي للدولة سوى التبجيل والتطبيل)، وتعامل مع النخبة المثقفة بالتدجين حيناً وبالإبعاد أحيانا كثيرة، وبذلك فإن إنعدام حرية الرأى حال دون مناقشة هكذا مواضيع فضلاً عن المطالبة بالفيدرالية.

بعد إنبلاج ثورة السابع عشر من فبراير سقطت منظومات الدولة الأمنية البوليسية، وبرزت عدة توجهات سياسية وأيديولوجية وجهوية وقبلية، منها الحراك الفيدرالي في بنغازي، نكوص قطاعات كبيرة من الشعب الليبي إلى منظومات سياسية بالية مثل القبلية والجهوية والفيدرالية له عدة أسباب أهمها فشل الحكومات المتعاقبة على مدى ستون عاما لإيجاد برامج تنموية فاعلة تكفل للمواطنين سبل العيش الكريم، والأمر الأخر هو تغذية هذه الحكومات للمسار القبلي الجهوي (المُبرمج) دون الإرتقاء إلى مفهوم المواطنة الذي يعني العدل والمساواة في الحقوق والواجبات وإتاحة الفرص للجميع.

الجدير بالذكر أن نتائج إستبيان قامت به جامعة بنغازي في سنة 2012م حول الكثير من مفاهيم بناء الدولة الجديدة، كانت نسبة الوافقين على تبني نهج الحكم الإتحادي يساوي 20% من عدد أصوات العينات بالمنطقة الشرقية و8% على مستوى ليبيا، وهو عدد ضئيل.

مع تعاظم وجود الإسلاميين في مؤسسات الدولة بعد التحرير، بإنخراط السلفية والمتعطفين معهم والمنتمين فكرياً إليهم إلى جماعة الإخوان، (وللتاريخ أن السلفية أكثر نشاطا وأعظم تغلغلاً في مفاصل الدولة وأكثر تواجداً على المنابر وأكثر إستهانة بقوانين الدولة، ورفضاً للدولة المدنية،  ولكن معظم الليبيون يختلط عليهم فرز التيار الإخواني من السلفي فيدعونهم بالإخوان)، في هذا الأثناء كان الحراك الفيدرالي يعد العدة للمواجهة على جميع الساحات، فقد أرغم المجلس الإنتقالي أولا على أن تكون لجنة الدستور تبعا (للولايات الثلاث: برقة وطرابلس

وفزان)، ثم ناصر أمر حرص المنشأة النفطية جضران في استيلائه على المواني النفطية ومنع التصدير منها، وناصره على تصدير النفط خارج شرعية الدولة، وبعد إنتخاب مجلس النواب قام بتحويل المجلس إلى طبرق ووضع أعضائه رهينة لرغبات الحراك الفيدرالي وأخيرا مناصرة حفتر في شن حرب (الطواحين) بزعم الحرب ضد الإرهاب في بنغازي ومحاولة دخول طرابلس بقوات جيش القبائل والمليشيات القبلية، وبذلك تم تدمير بنغازي وتهجير أهلها وإحداث إنقسامات كثيرة بين أفراد المنطقة الشرقية بكاملها.

الحراك الفيدرالي لم يقف عند هذا  الحد بل أفرز نواب لهم إستطاعوا الفوز في إنتخابات لجنة الدستور، ومطالبتهم المتكررة بتنفيد النظام الفيدرالي المرفوض شكلاً وموضوعاً في المناطق الأخرى من ليبيا مما يجعل الإتفاق على صيغة واحدة للدستور ضرباً من الخيال في الوضع الحالي.

من الواضح أن إنتشار الفوضى الخلاقة (ليست في ليبيا فقط بل في الكثير من الدول العربية) هي غياب العقد الإجتماعي الذي تبنى عليه الدولة، فلم تعد الفكرة القومية والجهوية والقبلية وحكم العائلة أو الطائفة التي سادت في النصف الثاني من القرن العشرين مناسبة لقيام الدول والحكومات، وبالتأكيد ليست الفكرة الدينية المنقسمة على نفسها إلى شيع ومذاهب مناسبة لبناء الدول ونموها، والتي ترفض معاهدة سايكس/ بيكون المؤسسة لمعظم الدول العربية.

إن مفهوم الهوية المبني على الجغرافيا للدولة الوطنية الواحدة، وتبني قيم الحداثة مثل مبداء الديموقراطية الذي يرسخ قواعد الإنتقال السلمي للسلطة، ومبداء المواطنة الذي يضمن العدل والمساواة في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص بين افراد المجتمع، مع إطلاق للحريات العامة ضمن قانون الدولة، وإرساء دعائم دولة المؤسسات وتنمية الحس الوطني  هو السبيل إلى مستقبل واعد، بعيداً عن الزعامات القبلية والجهوية وطغيان الفرد، ولا يخفى على أحد أن تطور مفهوم الدولة ونظام الحكم في كل من ماليزيا وتركيا يستحق أن يكون مثالاً للكثير من الدول العربية والإسلامية التي ترزح تحت نير العائلة أو القبيلة أو الطائفة أو المذهب.

 

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

التعليقات: 1

  • احميدي الكاسح

    تبا للنفط ، أين هي ليبيا ، وقد الغيت بالغاء دستور المؤسيسين
    الحقيقه إن برقة هي” ليبيا سوبريور و انفريورـ التابعين لمجموعة
    Oriens (17] provinces) :[1] Libya Superior; [2] Libya Inferior; .. [4] Aegyptus Iovia; [5]
    ِAegyptus Herculia; [6] Arabia Nova);.. [15] Cyprus.. 17] Osrhoene ، ”
    أما طرابلس فجزء من أقريقيه (تونس Africa (7 provinces)) وبهذا يؤرخ ابن خلدون بكتابه التذكار المحقق من المرحوم الطاهر الزاوي (ص، 307) وبحدودها،إن مستقبل ليبيا الحاليه بسبب التأريخ ولعدم استجابة الطرابلسيين وتنكرهم لبرقة العربية منذ الفتح ولرفضهم دستور المؤسيسين “1951” والغائه من قبل الإنتقالي ، ليصير الأمرللحسم ، ودون نزاع وجدل حول النفط والقبائل والأحزاب والقتال. فلا توافق، ولا حاجة لجحيم النخب والساسه والكتبه،و ليعاد الأمر لنصابة قبل الدستور المعلن في 7 اكتوبر 1951، وليرتاح السيد الزاوي المستنكر للإسم ليبيا ونعته بالدخيل” ليكون كما يقول الزاوي”ص، 509 من كتاب جهاد الأبطال” ولكن فقط بشأن طرابلس، لأنه أصلا صحيح و يغطي برقة الرومانية والإغريقية وأيالة برقة (1869) وإمارتها الأولى والثانية 1917،1949، ليبيا الجامعه لأقاليمها وجزء من افريقيه هي فقط المملكة الليبية المتحدة لسنة 1951م.

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً