تعديل سعر الصرف.. شرُ لابد منه

تعديل سعر الصرف.. شرُ لابد منه

د. سليمان سالم الشحومي

‏مؤسس ورئيس مجلس إدارة سوق المال الليبي السابق

طالبت في مقالتي السابقة تحت عنوان “ الدينار الليبي وصراع كسر العظم “ بضرورة إن يتخذ المصرف المركزي جملة من الإجراءات بهدف أولا إرجاع السيولة الهاربة خارج الإطار المصرفي والتي بلغت حتى الآن ما يقرب من 23 مليار دينار في نهاية السنة الماضية حسب بيانات المصرف المركزي وربما تجاوزت الآن 25 مليار دينار والتي تمثل أكثر من  30%  من عرض النقود M1، وكان من بين ما اقترحته هو تعديل سعر صرف الدينار وليس تعويمه حيث انه سعر مدار بهامش يتذبذب في حدود معينة حسب ما هو محدد  بوحدات حقوق السحب الخاصة،

يبدي البعض تخوفه الشديد من هذه الخطوة التي ربما سترهق كاهل المواطن وتزيد من معاناته اليومية بسبب ارتفاع الأسعار في جميع السلع والتي  تسبب فيها توقف المصرف المركزي عن توفير التغطية للاعتمادات المستندية وتوقف عمليات البيع النقدي للدولار وشحن البطاقات الالكترونية بالدولار في الفترة السابقة، والسبب في ذلك في تقديري هو الفساد الكبير في كل ما يتعلق بالعمليات المصرفية ذات العلاقة بالعملة الأجنبية مثل الاعتمادات والحوالات والتي أدت إلي استنزاف أموال بدون وجه حق الأمر الذي انعكس علي مستوي معيشة المواطن والذي أصبح يعاني من ارتفاع السعر في السوق السوداء برغم ثبات سعره لدي البنك المركزي.

البنك المركزي قد ينظر إلي المسالة علي انه لديه سعر رسمي شبه ثابت أو ما يسمي بالسعر المدار، وان العملة الليبية غير معومة وانه لا يهتم بارتفاع الدولار بالسوق السوداء كونه وفي ظل الظروف التي يعيشها الاقتصاد الليبي و المتمثلة في تعثر تصدير النفط فانه يعمل علي الحفاظ قدر الأمكان علي احتياطياته لفترة أطول قدر المستطاع وقد لا يستطيع التعامل مع الطلب علي المرتفع علي الدولار في ظل هذه الظروف وفيما يخص مستوي الأسعار فانه يعالجها عبر برنامج موازنته لفتح الاعتمادات التي اقرها والمتمثلة في تخصيص 2 مليار دولار لمدة ثلاث اشهر اعتبارا من فبراير الماضي وما أعلن عنه من المباشرة في شحن البطاقات الالكترونية بالدولار.

يعتبر  البنك المركزي أن المشكلة تكمن في تلاشي السيولة المالية من البنوك والتي تسبب فيها سحب التجار أموالهم من البنوك والتي قد أعاقت قدرة البنوك علي استخدام النقدية لديها لسداد المرتبات الشهرية وأصبحت تعتمد علي ما يورد إليها من نقدية، فعلية من البنك المركزي فلا توجد نقدية ولا توجد عمليات مقاصة وتسوية بين البنوك تساعد علي توفر السيولة، ناهيك عن معدل  التضخم الذي بداء في التزايد بشكل مظطرد خلال الثلاث سنوات الأخيرة وحسب بيانات البنك المركزي وصل إلي حوالي 8% في العام الماضي وربما تكون أكثر بكثير الآن.

ومن الناحية العلمية الاقتصادية وصول معدل الفائدة إلي الصفر بسبب إيقاف التعامل بالتعامل بالفائدة بين البنوك والبنك المركزي أوصل الحالة إلي ما يسمي بفخ السيولة والتي عندها تتراكم السيولة المالية دون أي فائدة فلا يوجد استثمار للأموال ولا يوجد إقراض، ناهيك عن سعي البنوك للتخلص من النقدية العالية لديها بسبب تكلفة التخزين والنقل والتامين في ظل الظروف الأمنية الغير مستقرة.

السؤال هل نحن نريد أن نقضي علي السوق السوداء للدولار الآن؟ أو نريد تحسين المستوي العام للأسعار؟ أو دعم الصناعة المحلية  المتعثرة؟ أم نعالج عجز الموازنة العامة والخلل في ميزان المدفوعات ونعيد الاستقرار النقدي للاقتصاد الليبي؟.

إننا أمام أزمة خانقة أيها السادة لم تشهد البلاد مثيلا لها منذو قيامها كدولة منتصف القرن الماضي، فالقول بان العلاج هو عودة تصدير النفط إلي معدلاته السابقة المعروفة وان كان كلام صحيح 100% ولكنه قد ياخذ وقت اطول مما يعتقد البعض بسب أحداث التخريب والتدمير للحقول والمواني النفطية المواطن لا يمكنه الانتظار وهو يبحث عن ما يسد رمقه ويقيم صلبه ويسد جوع اطفاله، بالتالي لابد من إجراء معالجة جراحية عاجلة تعيد التوازن عبر جملة من الإجراءت بالتاكيد المالية والتجارية والنقدية في وقت واحد إلي حين تحسن الإيرادات العامة من النفط وإعادة هيكلة الاقتصاد بالكامل.

الإيرادات المحلية من الضرائب والجمارك وغيرها من الرسوم غير قادرة علي المساهمة  في توفير إيرادات تكفي للإنفاق  علي بند واحد من بنود الميزانية العامة وبالتالي فإن  معالجة أوضاع الميزانية العامة المتدهورة أمر علي ما يبدوا صعب،  في ظل عدم تحصيل إيرادات محلية تذكر من الضرائب والرسوم الجمركية وغيرها من رسوم الخدمات والتي تشير التقارير الرسمية إلي تدني الحصيلة بشكل غير اعتيادي وبرغم ارتفاع الواردات خلال الثلاث سنوات الأخيرة بشكل كبير جدا.

وفي ضوء ذلك قد يصبح  تعديل سعر الصرف أمرا ممكننا ومقبولا في ضوء صعوبة القيام بأي خطوي أخري علي ارض الواقع  مع ضرورة العمل علي استبدال جميع أنواع الدعم الحالي بدعم نقدي مباشر يقدم للفقراء والطبقة المتوسطة التي يمثلها العاملين في القطاع العام والمتقاعدين والمعوزين والمسجلين ضمن صندوق الإنماء عبر بناء نظام للحماية الاجتماعية تشمل دعم الدعم النقدي لمواجهة ارتفاع المستوي العام للاسعار في الاقتصاد عند تعديل سعر الصرف، فبرغم من أن  الإدارة في الشق الغربي من البلاد أقرت العمل  بالبديل النقدي، إلا انه لم يري النور حتى الآن الأمر الذي يزيد من تفاقم الوضع كون الدعم توقف عن السلع ولا بديل لمعالجة ارتفاع الأسعار.

الصين علي سبيل المثال الاقوي اقتصاديا والأكبر من حيث الاحتياطيات النقدية في العالم ولكنها من حيث العملة تعتبر الأضعف في العالم لماذا؟ لأنها تريد أن ترفع معدلات التصدير من السلع والمنتجات لديها ولديها نظام قوي للحماية الاجتماعية للفئات الفقيرة من الشعب، وبالتالي فهي لا تريد عملة قوية ولكنها تريد قوة ميزان المدفوعات وبالتالي قوة الاقتصاد عبر قوة الصادرات.

وهنا لابد من التعرض لميزان المدفوعات الليبي والذي يعبر حسب المفهوم الاقتصادي انه سجل لإثبات جميع العمليات التي تربط الاقتصاد الوطني بالاقتصاد العالمي بعلاقات تبادلية، وتشير بيانات ميزان المدفوعات الليبي إلي عجز في سنة 2014 بحوالي 30 مليار وفي عام 2013 بلغ العجز حوالي 8 مليار، وبالتأكيد أن سنة 2015 قد استمر العجز في ميزان المدفوعات كون هناك عجز في الميزانية العامة واستمر تعطل تصدير النفط وفي المقابل استمرت نفس وتيرة الاستيراد المفتوح علي مصراعيه ناهيك عن كونه استغل بشكل سئ في تهريب العملة للخارج.

وهنا يطرح معالجة العجز المستمر عبر تعديل سعر الصرف وخصوصا أن هناك صعوبات أيضا في معالجة عجز الموازنة والتي تتطلب إقرار حزمة اقتصادية قد تكون قاسية.

والسؤال ماذا نريد نحن في ليبيا في ظل الظروف الحالية، هل نريد أن يكون لنا دينار قوي في حسابات المصرف المركزي وضعيف بشدة خارجه في السوق السوداء و تتعرض عمليات بيعه إلي تحايل وتزوير وفساد في البنوك وأطماع تجار العملة، أم أن يكون لنا دينار بسعر عادل في ضوء ما تعكسه الأوضاع الاقتصادية الحالية ويخدم حل العديد من المشاكل كنقص العملة المحلية في البنوك والقضاء علي الفساد وتهريب العملة للخارج وتخفيض العجز في الموازنة العامة وتحسين ميزان المدفوعات، بشرط حماية الفئات الضعيفة من تأثيرات ارتفاع الأسعار خصوصا أن احتياطيات البنك المركزي من العملة الصعبة حسب أخر بياناته تقدر بأكثر من 100 مليار دينار حسب سعر الصرف الرسمي، أي أن القاعدة النقدية مغطى بأكثر من الضعف وهو أمر جيد إذا لم يتوسع البنك المركزي في القاعدة النقدية،

وفي ظل هذه الظروف يمكن أن يستخدم في تبني خارطة طريق متناسبة ومتناسقة تشمل تعديل سعر الصرف مرحليا وتجنيب الفروق لتعويض عجز الموازنة العامة الذي بلغ حتى نهاية عام 2015 أكثر من 50 مليار دينار، ويمثل عجز مستمر لمدة ثلاث سنوات متتالية مع إجراء تعديلات علي قوانين الضرائب والجمارك وقانون الدين العام للسماح بإصدار سندات حكومية وتحسين الإيرادات العامة و مجابهة الفساد المستشري في مفاصل الدولة الليبية.

لا أريد الخوض في آليات التسعير للعملة، وما هي الظروف التي تناسب كل نوع منها، برغم أن الوضع في ليبيا يفتقد إلي الاتزان كونه يفتقد لمعدل الفائدة والذي يعتبر مهم في تحريك السياسة النقدية وضبط معدل التضخم كما أن تعرض العديد من الأصول الخارجية للتجميد وصعوبة الوصول والتحكم في الاحتياطيات إلا عبر إجراءات معينة اقرها مجلس الأمن الدولي، بالإضافة إلي تعثر تصدير النفط وازدياد العجز في الميزانية العامة وعدم قدرة الدولة علي إصدار سندات دين عام بسبب وجود موانع قانونية وبالتالي فقدان أداة أخري لحفظ التوازن في الاقتصاد الليبي.

وفي ضوء هذا الوضع المضطرب والمعقد والذي لا توجد مؤشرات جدية علي تحسنه علي المدى المنظور، فهل من المعقول أن يستمر التمسك بسعر صرف الدولار أمام الدينار الحالي أم انه أن الأوان لتعديله مرحلياً، إلي أن يتم إعداد خطة شاملة  لتطوير الاقتصاد الليبي في ظل حكومة واحدة ومؤسسات مالية موحدة قادرة علي تنفيذ برنامج حكومي طموح يعيد إطلاق اقتصاد قادر علي تحقيق التنمية المستدامة لجميع الليبيين.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. سليمان سالم الشحومي

‏مؤسس ورئيس مجلس إدارة سوق المال الليبي السابق

التعليقات: 5

  • عبدو

    سعر الفائدة احد أدوات السياسة المالية وليس السياسة النقدية ،

  • صلاح عبدالمالك

    والله أخ شحومي كلام طيب ولا يصدر الا عن انسان وطني يحمل هموم الوطن والمواطن إلا أني أرى الحل الجذري هو حكومة توافقية قوية اول أعمالها تأمين الحقول النفطية والقضاء على ما يسمى بداعش أو أيا كان اسمه وتأمين الحدود المصدرة لهؤلاء هذا باختصار الوقت ليس في صالح الوطن والمواطن ليبيا تورتة كبيرة والكل يمد اصبعه لها سواء ابنها او جاراتها او اخواتها او من يدعون الوصاية عليها الكل يسعى لاستنزافها بشتى الوسائل والاشكال .نسأل الله أن يرد كيد من أراد بليبيا وأهلها سوءا في نحره ويجعل تدبيره تدميره ، اللهم من أراد بليبيا وأهلها خيرا اللهم وفقه لخيره وسخر له البطانة الصالحة التي تعينه على الخير اللهم آمين يارب العالمين.

  • محمد الشريف

    أنا متابع حريص لمقالات الأستاذ الشحومي…وأتمني أن أقرأ له.و هو المدير السابق لسوق المال.أن يجدثنا عن سوق المال و تأثير تحميد ملايين الدينارات فيه….إيجابا وسلبا. ولكم الشكر.

  • حسني بي

    اخي د. سليمان
    اتفق معاك في التحليل و الحلول الجذرية .
    تأخير اتخاذ إجراء تعديل سعر الصرف يفكر للشعب الليبي ما لا يقل عن 10 مليون كل صباح.
    كما اتفق بأن استبدال الدعم يجب أن يعطي لمستحقيه إلا أننا نفتخر أبسط قاعدة معايير و بيانات . و لا يوجد لدينا وقت لتبني تلك القاعدة للمستحقين و الذي أصدرها بنسبة 80% من الشعب ….. و حتي لا نغرق في مستنقع اللجان المتخصصة أوصي أن يدفع البديل للجميع حتي تجهز القاعدة.

    و بالنسبة لتغيير سعر الصرف اسمحلي أن اعارضك لأننا نحتاج الي تغيير فوري و مؤلم و الآن. …….. والسعر المعادلة باستمرار الدعم السلعي 3.500 و إذا تم الاستبدال فالسعرىالعادل 2.500.

  • حسني بي

    اخي د. سليمان
    اتفق معاك في التحليل و الحلول الجذرية .
    تأخير اتخاذ إجراء تعديل سعر الصرف يفقر للشعب الليبي ما لا يقل عن 10 مليون كل صباح.
    كما اتفق بأن استبدال الدعم يجب أن يعطي لمستحقيه إلا أننا نفتخر أبسط قاعدة معايير و بيانات . و لا يوجد لدينا وقت لتبني تلك القاعدة للمستحقين و الذي أصدرها بنسبة 80% من الشعب ….. و حتي لا نغرق في مستنقع اللجان المتخصصة أوصي أن يدفع البديل للجميع حتي تجهز القاعدة.

    و بالنسبة لتغيير سعر الصرف اسمحلي أن اعارضك لأننا نحتاج الي تغيير فوري و مؤلم و الآن. …….. والسعر المعادلة باستمرار الدعم السلعي 3.500 و إذا تم الاستبدال فالسعرىالعادل 2.500.

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً