التوافق – المستحيل الرابع

التوافق – المستحيل الرابع

د. أحمد معيوف

باحث أكاديمي ليبي

التــوافـــــق

أيقنتُ أنّ المستحيلَ أربعة         الغُولُ والعَنقاءُ والخِلّ الوَفي والتوافق

مع اعتذاري لصفي الدين الحلي

لا شك ان التوافق السياسي على قدر كبير من الاهمية في ادارة مراحل الانتقال الصعبة التي تعقب التغيرات السياسية الكبيرة، كما وان لرنين التوافق وقع جميل على الاذان وراحة للنفوس التي اتعبها الخلاف،  لكن: هل حقا يمكن ان يكون هناك توافق بين الناس؟

دعنا نبدأ من معنى التوافق، فالتوافق في اللغة معناه التقارب في الاراء ولا يعني بالضرورة التطابق التام فيها. وفلسفيا يعرف التوافق على انه سلوك المرءُ مسلَكَ الجماعة وتجنَّبَ ما عنده من شذوذ في الخُلُق والسُّلوك. وهناك معنى اخر للتوافق يأتينا من علم الفيزيا يذهب الى ان التوافق هو تفاعل عاملين او قوتين حتى يصبح تأثيرهما مجتمعين اكبر من مجموع تأثيرهما منفردين.

كل هذه المعاني تشجع على التوافق وتدعوا اليه، ولتحقيق التوافق يتم العمل على ما لا يختلف عليه ويترك ما اختلف عليه، ولا يفوتني هنا الاشادة بالحكمة اليهودية التي تقول ما اجتمع يهوديان الا وكان هناك ثلاثة اراء، فالفرقاء دوما يحتاجوا الى رأي ثالث والتوافق لا يحتمل الشروط. ومشكلة عدم الوصول الى توافق تكمن دوما في وجود ما يعرف بالشروط او الخطوط الحمراء التي يطرحها الفرقاء السياسيين، وكلما تعمق الخلاف بين الفرقاء تعددت تلك الخطوط الحمراء حتى يصبح من الصعب الوصل الى حل للخلافات السياسية، والنتيجة حتمية التدخل الاجنبي.

الدولة الوحيدة من دول الربيع التي استطاعت ان تعبر جسر الخلاف وتصل الى توافق هي تونس. لقد فشلت التجربة المصرية التي توجت بانقلاب داخلي على مخرجات الصندوق قاده الجيش على سلطة الاخوان المنتخبة، وفشلت ليبيا نتيجة انقلاب الاسلاميين على مخرجات الصندوق بدواعي يصعب تمريرها. وفي حين استطاع الجيش في مصر التقليل من الانفلات الامني الذي نتج عن اقصاء الاسلاميين، تكرس الخلاف والانفلات الامني في ليبيا التي تقاسم السلطة فيها حكومتين وبرلمانيين.

تونس خرجت من ازمة كادت ان تعصف بها، وتبعث بانعدم الثقة في التغيير بوفاق رائع بين الفرقاء السياسين، تنازلت فيه اكبر القوى السياسية عن السلطة طواعية، فقد عرف التونسيين ان حل الازمات لا يتم الا تحت سقف التوافق، وان تونس اغلى واثمن من المصالح الآنية التي تتحقق للتكتلات السياسية المختلفة. لقد وعى فرقاء تونس أن ما يجمعهم من منافع اكبر مما يفرقهم من مصالح. فتقدمت اربع منظمات وطنية بمبادرة لحل الازمة السياسية في تونس، كونت هذه المنظمات الاربع، وهي الاتحاد التونسي للشغل والهيئة الوطنية للمحامين والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان لجنة رباعية لرعاية الحوار الوطني، وتقدمت بخارطة طريق واضحة احتوت على بنود رئيسية هي: 1) حل حكومة النهضة وتعويضها بحكومة كفاءات وطنية غير متحزبة، وقد قيدت الحكومة المراد انشائها بمهام محددة وجدول زمني لتنفيد هذه المهام. 2) المحافظة على المجلس الوطني التأسيسي وتمديد فترته، مع تحديد مهامه وتحديد مدة زمنية لانهاء مهامه.

لقد افرز المجتمع التونسي قوى اجتماعية خيرة ووسطية متمثلة في اللجنة الرباعية استطاعت ان تفرض خارطة طريق واضحة وتجمع عليها الفرقاء السياسيين، وهذا يضاف لرصيد تونس الحضاري كما يضاف الى رصيد هذه اللجنة الخيرة، على انه يجب ان نعترف بان اللجنة لم تكن وحدها بقادرة على فرض خارطة الطريق هذه وجمع الفرقاء لولا حيوية الشارع الذي انجب البوعزيزي، فقد تحرك الشعب التونسي في مسيرات سلمية يوم 26 سبتمبر 2013 في عدد من المدن التونسية مطالبا فيها الحكومة والاحزاب السياسية بقبول خارطة الطريق التي وضعتها اللجنة الرباعية. واخيرا، اسفر الحوار الوطني في الاتفاق على تكليف السيد المهدي جمعة لتشكيل الحكومة البديلة، وخرج السيد الغنوشي بعبارته الرئعة التي قال فيها: لقد خسرنا المناصب لكننا كسبنا الديمقراطية. وقد توج التوافق التونسي بانتخابات رئاسية اعقبت صدور الدستور الذي تم انجازه في يناير 2014.

مصر، بعد يونيو 2013 تصدرت مشهد الاقصاء ومارسته بصرامة منقطعة، فالاسلاميون في مصر وتحديدا الاخوان لهم تاريخ طويل في المشهد السياسي، ولهم تأثير لا يمكن الاستهانة به. وبغض النظر على اننا نتفق او نختلف مع الاخوان، تبقى الحقيقة المرة التي تؤزم المجتماعات وتهدم السلم الاجتماعي فيه هو عملية الاقصاء، فمن اكبر الاخطاء السياسية واخطرها على الحالة المصرية هي استمرار هذه السياسة، ولعل المجتمع المصري ونخبه تتدارك هذا الامر بعدما تحقق استقرارا نسبيا في المسار السياسي المصري.

كثرت الخطوط الحمراء في التجربة الليبية مما الهب الوضع العام وضيق افاق التوافق، واصبح الفرقاء الليبين في خانة الاعداء. وللاسف العداء السياسي خلق حالة استقطاب شنيعة، وانقسم الساسة ومؤيديهم، وامتدت حالة الاستقطاب الى من نضن انهم مثقفين، وكان الاعتقاد ان المثقف على اقل تقدير في حالة الازمة ينحاز الى الوطن ويبتعد عن الايدلوجيات، ويناء بنفسه عن التجاذب السياسي، الا انه للاسف من يتصدر الاعلام الليبي لا يستطيع ان يخفي رائحته المنحازة الا من رحم ربي وهم قلة. كنا نعتقد ان الخطوط الحمراء الوحيدة التي يتفق عليها الجميع هي خطوط محدودة، اولها دم المواطن وثانيا التقسيم، الا اننا نرى ان هذين الامرين هما اكثر الامور هوانا على الساسة في ليبيا، وقد تساوى هذا الامر عند اعضاء المؤتمر الذي بعتث فيه الحياة بعد ان كان رميما واعضاء البرلمان الذي ولد ميت.

الميليشيات من اكبر نكبات الحالة الليبية، وتعرف الميليشيات على انها كل قوة مسلحة لا تخضع لسلطة الدولة. وفي الحالة الليبية تكونت العديد من الميليشيات تحت تسميات مختلفة، وكثير منها يدعي تبعيته للدولة تحت احد الوزارات التي تهتم بالشأن الامني، بينما العديد من الميليشيات جماعات غير منضوية تحت لواء الدولة ولا تأتمر بامرها رغم ان الدولة تجري لها مرتباتها ومزاياها. والجيش بقيادة الفريق خليفة حفتر، تكون ايضا بنفس الاسلوب الذي تكونت به التشكيلات المسلحة، فقد تكون خارج اطار الدولة باتفاق عدد صغير من ضباط وضباط صف في الجيش الليبي، ولم يعترف به المؤتمر الوطني العام ولا الحكومة الانتقالية آنذاك. في اغسطس 2014 اعلن البرلمان الليبي قرار رقم 7 الذي ينص على حل كافة التشكيلات المسلحة، وورد في البيان تعريف الجيش والمؤسسة الامنية واعادة بنائهما، وفصل في المادة الخامسة من القرار امر منتسبي التشكيلات المسلحة، دون اشارة الى الاليات المعتمدة، وهو نفس الخطاء الذي وقع فيه المؤتمر في اعلان حله للتشكيلات المسلحة في عام 2013. في فبراير 2015 تم ترقية اللوء خليفة حفتر الى رتبة فريق وتعينه قائدا عام للقوات المسلحة، وهذا القرار يتعارض ايضا مع قرار حكومة زيدان بمطالبة اللوء بتسليم نفسه.

الحقيقة موضوع الفريق حفتر من اكبر معرقلات الاتفاق السياسي لاسباب عدة، اولها كما سبق انه تشكل خارج اطار الدولة، ومنحه الشرعية من قبل البرلمان لا يختلف عما قام به المؤتمر من منح الشرعية لتشكيلات مسلحة تكونت خارج اطار الدولة تضم في صفوفها ضباط وضباط صف. والانكاء انه لا يخضع لسلطة البرلمان ولا للحكومة المؤقتة أسوة بالميليشيات التي لم تخضع يوما لسلطة المؤتمر او الحكومات المنبتقه عنه، وهو بذلك لا يختلف عن الميليشيات التي ترفضها كتلة السيادة الوطنية بالبرلمان. وموقف حفتر ايضا تجعله شخصية جدلية لا يقبلها العديد من الليبين حتى اولائك الذين يؤيدون دوره في محاربة الارهاب في بنغازي. فقد ادار ظهره للبرلمان الذي عينه وترفع عنه حينما طلب منه المثول امامه للمسألة، ولم يسفر لقاءه بكوبلر ومن بعده بالسراج باي جديد في موقفه من الاتفاق، وفي قراءة للمقابلة التي اجرتها معه اذاعة قناة ليبيا يظهر بكل صراحه رفضه للحوار وعدم اعترافه به. وفي اعتقادي الذي يشاركني فيه العديد من الليبين ان حفتر يسير على خطى السيسي وخطى القوميين العرب الذين يضعون الاخوان في خانة العدو، وبالتالي سيضل المشكل السياسي قائما ما لم ينهي احداهما الاخر. وحفتر، كرئاسة البرلمان وكتلة السيادة، ، لا يهمهم ان يمهدوا لدور مصري تحت قيادة السيسي في ليبيا شبيه بالدور الايراني في العراق، فالانقسام والتشضي في العراق مكن لايران، ووضع ليبيا اصبح لا يختلف كثيرا الا في بعض التفاصيل، وخصم النظام المصري لا يختلف عن خصم حفتر.

قد يرى البعض في قرار المجلس الرئاسي تشكيل قوة عسكرية خطاء كبير تجاوز فيه الجيش الذي يملك الصفة الشرعية، الا ان هؤلاء البعض يتناسون انه لم يحدث ان توافق الليبين ولا العالم على قيادة حفتر للجيش، فالامم المتحدة الراعي – بل والشريك – لعملية السلام والاتحاد الاوربي والكثير من دول العالم تعاملت مع البرلمان باعتباره جسم شرعي طوال الفترة الماضية الا انها امتنعت عن التعامل مع حفتر ومده بالسلاح. وأرى ان مقاتلة الميليشيات اكبر ضرر من احتوائها إن كان ممكن، فإذا ادى قرار تشكيل الحرس الرئاسي الى احتوى الميليشيات وضبطها فهذا افضل بكثير من مقارعتها. على اني ارى الحل الامثل هو تشكيل مجلس عسكري على غرار المجلس الرئاسي ويخضع له يضم حفتر ولا يستبعده، يقيد هذا المجلس بمهام محددة هي محاربة الارهاب واعادة بناء الجيش، على ان يقيد لهذه المهام مدة زمنية محددة لا تتجاوزها حتى لا نقع في إسطوانة التمديد التي اعتمدها البرلمان ولجنة الدستور ومن قبله المؤتمر.

إن التوافق في الحالة الليبية اضاف مستحيلا رابعا الى مستحيلات صفي الدين الحلي، ولا توجد خيارت مطروحة افضل مما توصل اليه الفرقاء في الصخيرات رغم عيوبه الكثيرة والاختراقات التي شابته، لكن – لو خلصت النوايا – فهناك دوما بديلا عن التوافق، هذا البديل يكمن في آلية الديمقراطية التي تعتمد التصويت، فالتصويت يحفظ موقف المعارض من تبعة نتائج التصويت إن آلت الامور الى غير ما يرتضيه للوطن، لكن الامتناع عن عقد جلسات البرلمان او تعطيل جلساته بالغياب المتعمد هو انقلاب سلس على الديمقراطية لا يختلف على كل الانقلابات التي تحدث، والبرلمان بهذا المسلك يصدر شهادة موته التي قد تكون شهادة موت للعملية الديمقراطية برمتها وربما للوطن باكمله.

والله من وراء القصد.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. أحمد معيوف

باحث أكاديمي ليبي

اترك تعليقاً