رفض التداول السلمي للسلطة

رفض التداول السلمي للسلطة

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

new-article1_22-10-2016

ظاهرة رفض المسؤولين للتنحي عن مناصبهم وإصرارهم على مزاولة أعمالهم بعد تعيين آخرين ظاهرة تستوجب الوقوف عندها، وهي رفضا ضمنيا للتداول السلمي على لسلطة رغم موافقهم لذلك نظريا، وما لا شك فيه، أن القبول بالانتقال السلس للسلطة من مسؤول إلى آخر هو الركيزة الأساسية التي تبنى عليها مؤسسات ديموقراطية فاعلة. ما جعل الظاهرة متفشية، زوال القوة القاهرة المعهودة من النظام الشمولي السابق، الذي كان يحتكر التعيين والإزاحة من المناصب العليا للدولة، ولا سبيل إلى القفز على المناصب أو رفض الخروج منها، وفي غياب مؤسسات الدولة، ظهرت مئات مراكز القوى التي تزعم شرعنة المناصب، وبذلك أصبح التشظي ظاهرة يومية في المشهد الليبي.

ثقافة التداول السلمي للسلطة، ثقافة حضارية حديثة ونبيلة لم تتاح للعرب والمسلمين سانحة ممارستها خلال تاريخهم الطويل، ونرى الرفض جليا للتداول في أحداث الفتنة الكبرى التي خرج فيها معاوية عن الإمام علي، وانقسام مؤيدو الإمام إلى مذاهب، حتى انتهى الأمر بحكم أموي ثم عباسي ملكي وراثي يملك الأرض والبشر، وهي ثقافة لا زالت الدول الإسلامية تعاني من مخرجاتها حتى اليوم.

رفض التداول السلمي للسلطة أربك المشهد الليبي منذ أن قام العقيد حفتر بالانقلاب على سلطة الدولة وإعلانه تجميد الإعلان الدستوري، وقال قولته: (من الآن يعتبر الإعلان الدستوري مجمداااااا)، رافق ذلك رفض مجلس النواب إتباع بروتكولات التسليم والاستلام من المؤتمر، وتلاه رفض المؤتمر لتسليم مهامه لمجلس النواب واستمراره في العمل بناء على قرار محكمة دستورية، وبذلك أصبح رفض التداول عملية مشرعنة من الجميع، انتهت مع هذه الخروقات التراتبية السياسية والعسكرية، وأصبح مجلس النواب تابعا للجيش في الشرق الليبي. ولأسباب جهوية قامت بلدية البيضاء بطرد الحكومة المؤقتة، وقامت الحكومة المؤقتة بفصل كل من وزير الخارجية والصحة وأخيرا وزير الداخلية، ورفض جميعهم قرارات الإقالة، بل أن وزير الداخلية بدعم من نواب بنغازي يطالب بأن يكون تابعا للجيش والبرلمان وليس للحكومة، وهو تفكير (توبسي توربي) أو حيص بيص. هذا غير رفض سفراء ليبيا في مصر وإيطاليا ومالطا ورؤساء الهيئة الليبية للاستثمار لتسليم أعمالهم وقيام بعضهم بفتح مكاتب موازية للسفارات ومؤسسات الدولة.

أخيرا تم عرض المسلسل الهزلي لإحياء حكومة الإنقاذ والمؤتمر من الرميم، وإعطاء حقنة منشطة للحكومة المؤقتة، هذا السلوك يعبر عن أن رئيس وزراء المؤقتة ورئيس وزراء الإنقاذ يتصرفان كمدراء لشركات يحق لهما إنشاء إتلاف (كونسوتيوم) من أجل إطالة عمر بقائهما في الحكم وليسوا كرؤساء حكومات دولة، وعراب ذلك الحكومة المصرية التي لا تبخل جهدا من أجل تقويض اتفاق الصخيرات، والذي لم يبدأ تنفيذه بعد، ورغم مثالب الرئاسي إلا أن الهروب للخلف سيكون أكثر تعقيدا من المضي قدما في الاتفاق. بالمثل نجد حرس الرئاسي يتنازل عن عمله برضى مقابل ماذا؟ ونحن نتحدث عن الضبط والربط، نتحدث عن القيادة والسيطرة وهما الركائز الأساسية لمنتسبي الجيش، فهل هؤلاء منهم، أم أن قيادة الحرس تحتاج إلى قيادة منضبطة، هذا يذكرنا بالجندي الياباني المرابط في غابات إندونيسيا والذي رفض تسليم سلاحه بعد عشرون سنة من توقف الحرب إلا بمرسوم خطي من قائد الفرقة التابع له، وكان له ذلك.

ما يذهل المراقب للشأن السياسي الليبي أمران رئيسيان، أولاهما أننا لا نتحدث عن مشاكل تحدث في إدارة جمعية استهلاكية أو نقابة لعمال النقل (مع احترامي لهم جميعا) ولكننا نتحدث عن رجالات دولة، عن رؤساء وزارات ووزراء ونواب بمجلس النواب، عن أناس وصل بعضهم بالانتخاب وبعضهم (بالتصعيد)، نتحدث عمن يزعم البعض أنهم من عالية القوم، وأنهم جميعا يوافقون على أهمية التداول السلمي للسلطة، وما أن يصل الأمر إلى ترك مقاعدهم حتى يرفضوا تبعاتها. هذه الظاهرة تضع سؤلاً جوهريا عن مدى فاعلية معاهدنا وكلياتنا وجامعاتنا، عن مدى مصداقية شهاداتنا الجامعية وما أعلى منها، بل ومنظومتنا الثقافية في إرساء دعائم مؤسسات الدولة، وعن مدى كفاءة الجانب التربوي في العملية التعليمية ومنها أخلاقيات العمل وأخلاقيات المهنة التي تقر التراتبية الإدارية، ناهيك عن قيم النهج الديموقراطي التي لم تترسخ قواعده بعد. بالمقابل شاهدنا منذ أشهر استقالة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق كاميرون من منصبه بعد أن خسر مشروع الاستمرار في الاتحاد الأوروبي، وهو لم يقيله أحد.

الأمر الثاني المهم؛ أن الحراك المدني الوطني الذي رأيناه في جمعة إنقاذ بنغازي ضد المجموعات المسلحة خارج منظومة الدولة، وفي طرابلس؛  72 جمعة ضد حكم العسكر قد انطفت أنواره، ففي بنغازي تلونت النخبة مع العسكر وأصبح البعض يتماهى معهم ويبرر أفعالهم، وآخرين تركوا الساحة وانكفوا على أنفسهم ولم يصدح أحدا منهم (سوى القلة) بأن النهج المتبع ليس مدنيا وليس ديموقراطيا وغير حداثي القيم، والذي لا يخرج عن تزاوج القبلية مع أدبيات العهد البائد، وذلك باستخدام القمع لتحقيق الأمن، مع سلب الحريات العامة وتوقف التنمية، فهو زيت قديم في زجاجة جديدة، أما في طرابلس فظهور الحراك المدني أصبح محتشما، والحديث عن التصرفات الفردية التي لا تلقى رواجا مثل عودة المؤتمر وحكومته أو وجود قوات خارج شرعية الدولة أصبح باهتا، بل أن البعض يخلط الأوراق من أجل العودة لنقطة الصفر، ومنها إطالة أمد الحرب والانقسام والتشظي المجتمعي.

إن ما يمكن أن يكون موجها سليما لمؤسسات وسياسات الدولة الليبية تفعيل وتعاظم حراك مدني فاعل يتكون من التيار الوطني البعيد عن المناطقية والجهوية والقبلية والأيديولوجيا الدينية، هذا التيار سيحمل على عاتقه تنوير المجتمع والدفع به نحو بناء دولة مدنية تمتلك مؤسسات فاعلة مواكبة لمقتضيات العصر. ولعل حراك (نعم ليبيا) من البوادر الجيدة التي تحتضن الجميع وتعمل بالجميع من أجل الجميع، نأمل من النشطاء المؤمنين بالدولة المدنية الانضمام إليه من أجل تكوين رأي عام ضاغط ينير الطريق نحو بناء دولة ليبيا الحديثة.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

اترك تعليقاً