آفاق انفصال جنوب وغرب ليبيا عن مشرقه - عين ليبيا

من إعداد: د. عيسى بغني

من الواضح أن الإشكال الليبي سيطول أمده بعد إصرار الدول الداعمة لجيش الكرامة على مده بالجنود والعتاد المستورد من أجل تنصيب حكومة موالية لهم، آخر المحاولات ما عرضه العارف النايض على البيت الأبيض بأن يمثل دور أحمد شلبي (العراقي) في ليبيا، أي يكون هو رئيسا للوزراء مدة ثمانية عشرة شهراً يتم خلالها توحيد المؤسسات والجيش والاستعداد لانتخابات برلمانية ورئاسية جديدة، مع تأكيده للأمريكان أن ذلك تم بالاتفاق مع خليفة حفتر، وهذا العرض سيُدفع به في مؤتمر برلين القادم إن وافق الأمريكان، وهذا موافقا لما نادى به الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي في مايو سنة 2011 عندما قال “أمريكا وحلفائها يجب أن تستعمل كل جهودها لمنع التحول الديموقراطي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذا حدث ذلك لن تستطيع التحكم في تلك الدول بل ستُقذف أمريكا خارج المنطقة”.

ومع صمت وحيرة ترامب عن كيفية التعامل مع الملف الليبي المعقد، وخاصة أن الروس على أبواب أوروبا، كان رد لجنة الأمن القومي الأمريكي أن “حفتر والنايض لا قواعد شعبية لهم ويحتاجان إلى صانع ملوك ليوليهما السلطة، وأن الرئاسي له قواعد شعبية ولكن لا يملك كريزما السيطرة على الدولة”، مما يعني لا حل جدري في المدى المنظور ولا انتصار لأحد الطرفين، إلا بتغيير هيكلية الرئاسي أو تفعيله لاكتساح مدن الجنوب وإخراج فلول حفتر منها، عندها يكون للرأي العام الدولي شأن آخر، وحدوث ذلك بالرئاسي الحالي يندرج تحت المستحيل الرابع للغول والعنقاء والخل الوفئ.

إذا ما هو الحل للدماء التي تٌراق يوميا بأيدي مرتزقة الجنجويد والروس، وهدم البيوت على ساكنيها؟.

إذا كان شيوخ وأعيان ومثقفوا برقة لا يؤمنون بدولة المواطنة التي تُبنى على الكفاءات والقدرة على الإنجاز، ومصرين على المحاصصة وأنهم مستمرون في مناصرة الحل العسكري بدفع أبنائهم للحرب ضد عاصمتهم، مهجرين الاف العائلات وقتل ألاف أُخرى، وتضييق الحياة على ثلاثة مليون ساكن بقفل المياه حيناً وقفل المطارات، وقطع الكهربا، وتزوير العملة، وجلب الأفاقين من العالم لتحارب مع العسكر، لأجل حصول أهل برقة على حقوقهم الإقتصادية، فلماذا لا يأخذونها بالطرق السلمية؟ بداية من إستفتاء البرقاويين حول إنفصال برقة عن القطر الليبي، وإن وافق جل سكانها فلهم ذلك، علما بأن إستفتاء جامعة بنغازي في سنة 2012 حول الفيدرالية لم يحضى بموافقة إلا 25% على مستوى برقة و8% على مستوى ليبيا. ولكن الغرب والجنوب الليبي له محادير كثيرة من الفيدرالية البيروقراطية التي ألفها الوطن من سنة 1952 إلى سنة 1962م، ولذا خيار الإنفصال أكثر واقعية من الفيدرالية وخاصة أن قيادات الفيدرالية تلاشت وإندمجت حتى الثمالة مع معسكر الكرامة الإعلامي والعسكري.

تاريخيا إنفصلت برقة عن القطر الليبي مرتين الأولى سنة 297 م عندما قام دقلديانوس بتقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين فذهبت برقة مع بيزنطة وطرابلس وفزان مع روما، حتى أتى الوندال فتوحدت على يد بلزاريوس ثم الفتح العربي.

والثانية عندما أيد الملك (كقائد للجيش السنوسي وبعض زعامات برقة) قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وكان مقابل الإشتراك في الحرب إعلان إستقلال إمارة برقة، وقد أوفى الإنجليز بذلك وأُعلنت إمارة برقة أو دولة برقة العربية إستقلالها في 1 يونيو 1949 م وكان مقرها إجدابيا. وبسبب إختلاف الدول المنتصرة في الحرب على مصير ليبيا، توافق الجميع على التصويت على إستقلالها وكان ذلك، والقصة معروفة. والجدير بالذكر أن هذا النقاش كان على أوجه في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي وكان الدكتور فيشر الإنجليزي صاحب كتاب الشرق الأوسط والاستاذ عزير سوريل المصري من المتحمسين لضم برقة إلى مصر، وأخر الحماس  تصريحات محمد حسنين هيكل قبل موته بآشهر.

مع شدة الضغط النفسي والإجتماعي والإقتصادي في ربوع الوطن، تدفع الأحداث حتيتا نحو إنفصال الغرب والجنوب الليبي عن شرقه من أجل وضع حد لأزمة طال علاجها فأستعصت، فما حظ الدولتين للبقاء والإزدهار في معزل عن الصراع الدائر؟ رغم سهولة الطرح المدعم بفروقات الهيكلية الإجتماعية إلا أن تطبيق ذلك من الناحية الجغرافية والقبول الديموغرافي سيلاقي صعوبات جمة. ولنفترض أن عامل توزيع الثروة هو المحرك للإنقسام بعيدا عن العوامل الإجتماعية والجغرافية المعقدة، سيكون هناك جمهورية برقة العربية تشمل برقة البيضاء وبرقة الحمراء؛ من السلوم إلى حد فاصل بالقرب من رأس الأنوف وجنوب شرق حتى الكفرة والعوينات، ويفصل الشرق عن الغرب بحر الرمال العظيم، أما الجمهورية الليبية فسيكون لها باقي الأراضي بحدودها الحالية.

وحيت أن إقتصاد ليبيا بسيط، ويعتمد بالكامل على النفط، فدخل الدولتين الحالي والمنظور، لا يحتاج إلى خبير إقتصادي، بمعنى أن حقول السرير والنافورة وأمال وابوالطفل والنخلة هم المورد الرئيسى للنفط بجمهورية برقة العربية بما يساوي نصف مليون برميل يوميا، يصدر من مواني الحريقة والزويتينة والبريقة والسدرة، وحقول شركة سرت الثمانية ستمد الغاز لمحطات الكهرباء.

والجدير بالذكر أن هذه الحقول منتجة للنفط والغاز منذ خمسين عاما، مما أدى إلى هبوط الضغط ومعدل الضخ للكثير منها بسبب العمر الزمني وإحتياج البعض الأخر لحفر أبار وخطوط جديدة حيت إستنفذ معظمها العمر الإفتراضي للعمل، ولجمهورية برقة العربية ثلاث مصافي للنفط صغيرة وهي مصفات طبرق ومصفات البريقة ومصفاة السرير، إضافة إلى مصفاة راس الأنوف مع شركة ليركو الإماراتية لإنتاج الديزل المتوقفة منذ سنوات، إضافة إلى مجمع راس الأنوف الذي توقف عمله رغم وجود أكثر من خمسة ألاف مستخدم بهم.

الجمهورية الليبية سيكون لها ثلاث منصات بحرية وهي البوري وصبراتة والجرف مع مجمع مليته الحالي وتطويره المستقبلي وحقل الوفاء إضافة إلى حقل الشرارة وحقل الفيل وأبار حقل الحمادة التي هي تحت التشغيل المبدئي، بطاقة إنتاجية إجمالية تقارب نصف مليون من النفط وقدر كبير من الغاز للتصدير عن طريق خط الأنابيب البحري إلى إيطاليا، بالإضافة إلى مصفاة الزاوية لإنتاج المشتقاة النفطية. إلا أن ما يلاحظ على هذه الحقول أنها بكر ستستمر في الإنتاج لعقود قادمة، ومع دخول إمتيازات كثيرة مكتشفة إلى الإنتاج في كل من منطقة حوض غدامس (من سيناون إلى الحدود التونسية الجزائرية) وحوض مرزق واقصى الجنوب عند جبال تيبستي، وذلك بعد عودة الكثير من الشركات والتي تم توزيع أكثر من ثلاثين إمتياز إستكشاف وحفر عليها.

بعد الانفصال سيترسخ الشرخ الاجتماعي أكثر، بحيث تستوطن أكثر من 40 ألف عائلة مُهجرة من بنغازي ودرنة المنطقة الغربية ولن تعود إلى مساكنها، وربما تغادر عائلات كثيرة من التواجير والزليطنية والمصراتية بنغازي ودرنة لتنتقل إلى المنطقة الغربية، بالمثل قد تنتقل مجموعات التبو من الكفرة وربيانة إلى مرزق، وبذلك سيتم حل مشكلة قلة السكان في الغرب والجنوب الليبي داخليا، أما جمهرية برقة فإن النقص الشديد في السكان سيتم تلبيته عن طريق تكثيف مساعي نقيب ولجنة إعادة المهجرين من مصر وتونس لعودة المغتربين، واستقبال قبائل الأشراف، إضافة إلى تسهيل دخول القبائل التي لها امتداد في الفيوم مثل أولاد علي والجوازي وأربعة وثلاثين بطنا من هوارة بالصعيد والبراعصة وغيرهم، ولمشروع الكرامة برنامج معلن لتوطين ملايين المصريين مردفين ببرقة.

من الناحية السياسية لن يكون هناك مشكلة فراغ سياسي لجمهورية برقة العربية، فمن اليوم الأول سيكون المشير رئيسا للدولة والنايض رئيسا للوزراء وعقيلة رئيسا لمجلس النواب، ويستمر الحال على ما هو عليه، تيمنا واستنساخا للنظام المصري.

في الغرب الليبي الوضع مختلف، نعم لا يوجد حرب ولا معرقلين ولكن تحتاج الدولة الوليدة إلى عقد اجتماعي جديد، دستور ينظم حياتها، لتنتقل بعد ذلك إلى بناء مؤسسات الدولة على أسس الدولة المدنية المنشودة والمعهودة بإثنان وثلاثون مادة حاكمة مثل إطلاق الحريات العامة، واحترام القوانين واللوائح الوطنية والدولية، وفصل السلطات، واحترام المؤسسات، والعدالة والمساواة، وترسيخ مبدأ المواطنة الفعالة، قد تتعثر الأمور قليلا ولكن هناك خارطة طريق واضحة مرت من خلاله معظم الدول التي وقعت فيها ثورات أو حروب أهلية أدت إلى تغيير سياسي واجتماعي عميق.

ومع وجود كفاءاة وطنية وإنفتاح على العالم وموقع جغرافي مهم، كل ذلك كفيل بإنشاء نهضة عمرانية وثقافية كبيرة لهذه الجمهورية الوليدة في سنوات قليلة، كما يحدث في تونس وحدث في كوريا الجنوبية وروندا وبوسنيا وبولندا وغيرها من الدول التي مرت بحروب وقلاقل بسبب الإختلاف الثقافي المستخدم للصراع على السلطة.

رغم أن مصالح غرب وجنوب ليبيا تتقاطع مع الكثير من الدول الغربية ومصر في انفصال برقة عن القطر الليبي إلا أن ذلك مستبعداً من الناحية الواقعية، فالجغرافيا لا تقدم حدود طبيعية واضحة في الشمال بين القطرين، وأن جزاء كبيراً من برقة البيضاء لن يرضى بإلحاقه ببرقة الحمراء، مما يؤدي إلى نزاع وإنقسام آخر شبيه بما يحدث في جنوب السودان.

كما أن النكوص إلى النظام العسكري سيفرغ برقة من طاقاتها البشرية الوطنية وتصبح برقة؛ المحافظة نمرة ثلاثين في الهيكلية الإدارية للدولة المصرية، وإن كانت لها إسم جمهورية برقة العربية، وذلك لن يرضى عنه الشرفاء.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا