الإسلام السياسي: بين الإنصاف والشيطنة - عين ليبيا

من إعداد: د. عيسى بغني

تصدح وسائل إعلام دول الاستبداد ومن ولاهم من العامة أن الإسلام السياسي معول هدم ومصدر إرهاب وسبب مصائب ونوائب الأمة، بل يصل التشنيع بهم إلى درجة التناقض؛ من أنهم عملاء أمريكا والغرب وأنهم مجموعات إرهابية يجب إجتثاتها، ويتوسع الخلط الممنهج والتهويل الإعلامي ليشمل المجموعات المقاتلة في ليبيا وتونس والحوثيون في اليمن وبوكوحرام في أفريقيا وحكومة إيران، وكل من يعارض حكومات الإستبداد بنوعيها العسكري القومجي أو الملكي والأميري. للأسف هذا التشويش يجد له أذان صاغية عند الكثير من الناس دون التفريق بين التراء والثرياء، فالإسلام السياسي النهضوي سليل مدرسة الرأي والإجتهاد عند الكثير من المذاهب منهم أبي حنيفة لا علاقة له بالحركات الجهادية التي يتم تغذيتها من الفكر الأصولي لمدرسة أهل الحديث التي توقف الإجتهاد عندها بعد القرن الثالث للهجرة.

في الأونة الأخيرة دأبت دول الاستبداد على تشجيع الغرب ومنها أمريكا على إدراج الإخوان على قائمة الإرهاب ولكن لم يجد الغرب مبرراً قانونياً لعمل ذلك، وتجادل هذه الحكومات بأن الأيديولوجيا الإسلامية للإخوان المسلمين تمثل تهديداً لفكرة الدولة القومية، التي تعني إستحواد جماعة معينة على المشهد وجعل الآخرين من “المؤلفة قلوبهم” كما في البحرين والعراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن والسودان والسعودية وحتى الجزائر واليمن، على مدى سبعون عاما كان الفكر القومي الإستبدادي والدولة القومية هي المسئولة عن جميع هزائم الأمة في حروب 47 و56 و67 و73 وحرب الخليج الأولى والثانية وحرب تشاد وحروب داعش وأخرها حرب اليمن وليبيا وسوريا.

الإسلام السياسي، الصحوة الإسلامية، الإسلام الديموقراطي جميعها لها معنى واحد يتغير الإسم مع تطور الفكر السياسي الإسلامي الحديث، وذلك من منطلق أن الإسلام دينا ودنيا، وهي محاولات لإيجاد نظرية إسلامية للحكم، مغايرة للموروث الثقافي التاريخي للسلاطين. بعد سقوط الخلافة العثمانية إنقسم المفكرون الإسلاميون إلى ثلاثة فرق، الأولى واصلت تأييدها للولاة والسلاطين والملوك بانهم ظل الله على الارض وأنهم القائمون على تنفيذ شرع الله ويتم توريث الحكم لأبنائهم جيل بعد جيل، وسارت على ذلك الانظمة الملكية ونظم الإمارة والسلاطين ومن بعدهم الجمهوريات الوراثية، والمنحى الثاني فصل الدين عن الدولة، وهو ما قال به الشيخ على عبدالخالق في كتابه الشهير “أصول الحكم في الإسلام” الذي صدر بعد سنتين من سقوط الخلافة العثمانية، ولقد واجه الشيخ حملة شعواء من الأزهر والحكومات الملكية ومُنع كتابه من التداول لعقود بل وأعفي من عمله.

المنحى الثالث ذلك الذي عزم على دراسة الإسلام بطريقة عصرية تؤدي إلى تطوير المفاهيم السياسية للإسلام وإيجاد فكر سياسي يتماشى مع متطلبات العصر ويلبي إحتياجات الدولة الحديثة، علما بأن الفكر السياسي في الإسلام كان متاخرا جدا، بفعل منع السلاطين والملوك تداول هذا العلم على مدى ثلاثة عشرة قرنا من الزمان.

من الذين لهم قصب السبق في هذا المجال ابوالاعلى المودودي من مسلمي الهند والذي يرى أن نظام الحكم في الإسلام لا علاقة له بالسلاطين والملوك والتوريث، وأن الشورى لها مكانة في الحكم وأن الوطنية والقومية إن كانت إحترام الفرد لشعبه والدود عن وطنه وإستقلال الشعب عن غيره فلا ضير في ذلك وهي أشياء فطرية، أما القومية التي تضع ذاتها ومصالحها ورغباتها الخاصة فوق جميع الناس ومصالحهم ورغباتهم، وتحتقر الآخر وتبجل البعض، والحق عندها هو ما كان محققاً لمطالبها واتجاهاتها ورفعة شأنها، ولو كان ذلك بظلم الآخرين وإذلال أنفسهم) فهي قومية ممقوتة وسيئة (الإسلام والمدنية الحديثة). مُنح العلامة المودودي جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، وهي أول جائزة تمنح لداعية إسلامي ومفكر، وتسلمها بالنيابة عنه ابنه فاروق في حفل كبير، رعاه الملك خالد بن عبد العزيز، بمدينة الرياض، في ربيع الأول سنة 1399هـ.

على التوازي تأسست جماعة الإخوان المسلمين في مارس 1928 بمدينة الإسماعيلية المصرية، على يد حسن البنا بعد 4 أعوام من سقوط الخلافة العثمانية، وإستمرت حميمية العلاقة بين السعودية والإخوان لسنوات طويلة، حينما بدأت عقب لقاء تاريخي جمع الملك عبد العزيز آل سعود، ومؤسس الجماعة الإمام حسن البنا سنة 1936 واستمرت تنمو بهدوء واطراد، قبل أن تتحول إلى عداء وبغضاء حديثا. استمر مسار التحالف بين جماعة الإخوان والمملكة، طوال فترة جمال عبد الناصر من 1956 إلى 1970 وفترة حكم محمد أنور السادات من 1970إلى1981، فالجماعة كانت تحتاج للمأوى والموطن والحامي من بطش مخابرات عبدالناصر، والمملكة كانت تبحث عن العقول والكفاءات، إلا أن العلاقات سات بعد حرب الخليج الأولى وإزدادت سؤا بعد تفجير برجي التجارة بنيويورك ومشاركة تسعة عشرة سعوديا في الهجوم، مما يعني فشل المنظومة التعليمية في السعودية التي ساهم فيها الإخوان، وتصاعد التوثر في العلاقة مع ثورات الربيع العربي (2011)، إذ وقفت السعودية بوضوح إلى جانب الإمارات في مواجهة هذه الثورات خوفا من إمتداد التسونامي إليهما، وسعت للحيلولة دون سقوط نظام حسني مبارك أولا ثم العمل على إسقاط أول رئيس مدني منتخب شرعيا في تاريخ مصر وهو محمد مرسي، وبإنتخابات شفافة لم تشهدها مصر في تاريخها الطويل، وكان لهم ذلك.

تطور الفكر السياسي للإخوان يترتكز على ثلاثة محاور: احترام كافة الجماعات الدينية والعرقية والسياسية للبلدان المسلمة، محاربة الفساد والبدء في الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وأخيرا، العمل بهدف تحقيق نهضة العالم الإسلامي على أساس القيم التي يقوم عليها المجتمع والدين، وفي كل ذلك إعمال للعقل والفكر والإستفادة من تجارب الشعوب ومنها قيام الدولة المدنية على أسس من الديموقراطية والتداول السلمي للحكم.

وهذه المبادئ من صلب المواطنة الحقة التي جعلت الكثير من المثقفين ينتمون إلى الإسلام السياسي عامة أو جماعة الإخوان فكريا أو حزبيا، فمنهم العربي والأمازيغي والنوبي والكردي والأفريقي والهندي والباكستاني والتركي، فهي مبادئ تنويرية لا توجد في مواثيق الأحزاب القومية مثل حزب البعث أو الناصري أو حزب الأمة ولا في دوسيهات الأمراء والسلاطين التي لا تعرف سوى العائلة والخدم والباقي سقط المتاع، ولا في الفتاوي السلفية المالكة للحقيقة والمكفرة لغيرها.

يعتقد البعض أن فكر الإسلام السياسي يمكن إقصاءه أو إجتثاته بالتنكيل برموزه ومحاربته وتشويه صورته في الإعلام الممول، ولكن ذلك أتبث فشله لأسباب جوهرية منها إفلاس قوى الأستبداد الشمولية بشقيها العسكري والأميري الملكي لإيجاد نظام حكم حداثي يلبي طموحات الجماهير في العدل والمساواة والمواطنة والتداول السلمي على الحكم؛ أي إيجاد حكومات مدنية تلبي متطلبات العصر، مما جعل 30 مليون مسلم يفرون بدينهم من تلك الدول إلى أوروبا وأمريكا، في حين أن الدول التي وصل فيها الإسلام السياسي إلى الحكم شهدت تقدما كبيراً في سجل الحريات والدمقرطة مثل تونس وتركيا والمغرب، بل أن تركيا أصبحت من العشرة دول الأكثر نمواً إقتصاديا في العالم للسنوات العشرية الماضية، وغاب من سجلاتها التغييب القصري والسجن بلا محاكمات وتزوير الإنتخابات.

ناحية أخرى أن من إنشرح قلبه للإسلام لن يكون مكتفيا بحجاته اليومية كالدواب كما في الدول النفطية الخليجية، ولن يرضي بالإستبداد والفساد كما في دول جمهوريات العسكر، والوقائع تدل أن كل الإنتخابات الشفافة في مصر والعراق وتونس وغزة والمغرب كانت الأحزاب الإسلامية على رأس قائمة الفائزين، وأن ردود الأفعال على موت الرئيس المصري المعزول محمد مرسي كان الأكثر إنتشارا على التويتر ووسائل التواصل الإجتماعي من أي خبر أخر.

الhسلام السياسي عُرف بدينامية حركية فاعلة، فلقد تنازل حزب النهضة في تونس عن الكثير من مكتسباته من أجل التقدم في العملية الديموقراطية وكذلك في المغرب وتركيا، وبالمثل فإن حزب الإخوان في مصر سيقوم بمراجعات كثيرة تنير طريقه وتصلح الأخطاء والتهم التي وصف بها، وقلة الخبرة التي شابت عمله في خلال سنة واحدة من تاريخ مصر، وبذلك فإن الإسلام السياسي سيكون له دور كبير في العشرية القادمة بعد أن أصبح أي مواطن على البسيطة يرفض الإستبداد والقهر ومنع الحريات الذي يمارس من الحكومات العربية الحالية على شعوبها.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا