الإسلام “ليس” منهم براء (1) - عين ليبيا

من إعداد: وفاء البوعيسي

سبب عنوان هذه السلسلة من المقالات التي أعتزم كتابتها في الواقع, هو ذات الجملة لكن معكوسة ـ “الإسلام منهم براء” ـ التي كنت أسمعها مذ كنت طفلة, هذه الجملة لطالما طرقت أسماعي بالتزامن مع سلوك يأتيه بعض المسلمين يترتب عليه قتل أبرياء, أو إلحاق إساءات بليغة بالنساء وإذلالهن, أو تفجيرات دموية وذبح بشر مسلمين وغير مسلمين, وهدم معابد ودور عبادة, وتفجير كنائس وإحراق من فيها أثناء تأدية طقوسهم الدينية, وحتى بمناسبة فتاوى اعتُبرت مشتطة جداً وغريبة لدى متلقيها من عموم الناس.

كان الجميع ممن حولي يحتج بهذه الجملة بالذات ـ “الإسلام منهم براء” ـ لدفع شعورٍ خفي يسبّب لهم الإحراج مع أنفسهم, وهم يرون إذلال الآخرين أو قتلهم تحت عناوين وآيات وفتاوى تنتمي إلى الإسلام, وهم يرددون أمامي باستمرار أنه لا ينبغي الخلط بين الإسلام وبين سلوك المسلمين, أو بين الإسلام وبين أقوال واجتهادات الفقهاء المتطرفين التي تسوّغ بعض هذه الأفعال, ودائماً كانوا يقولون إن الإسلام هو دين الفطرة الذي يأبى كل هذا ويرفضه, وأن الإسلام الحقيقي لم يُطبق بصورته الصحيحة, ولم يُحكّم حتى الآن, بل لا يتورع بعض من حولي عن ترديد الآية 96 من سورة الأعراف (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) مقررين أن ما يحدث هو من صنع أيدينا وحدنا, وأن هذا جزاء ابتعادنا عن دين الله الحق.

حين كنت أسمع كل هذه الحجج التي تُردد من حولي, تعليلاً لما وصل إليه حال المسلمين اليوم, كانت الأسئلة تتناسل في رأسي تباعاً, حول “شرعية” سلوك بعض المسلمين الهمجي ضد المخالفين لهم وضد المرأة, فإن لم تكن مرجعية هذا السلوك هي الإسلام نفسه بقرآنه وسننه وتفاسيره, فما هي مرجعية هذا السلوك بالضبط يا ترى؟!

وإن كان لا يجب أبداً أن نخلط بين الإسلام وبين تفاسير رجال العلم والفقهاء الذين يسوّغون هذه الأفعال, فمن أين نأخذ إسلامنا إذاً إن لم يكن من هؤلاء بالذات؟ أعني أن الإسلام ـ كأي دين آخر ـ تؤخذ أحكامه وتفاسيره, لا من الحالمين الذين يُجهِدون أنفسهم في “عصرنته”, بل إنه ليؤخذ من علمائه المتخصصين في الحديث وفي الفقه وفي التفسير وفي اللغة, الذين منحهم النبي مسوغاً كونهم ورثته الحقيقيين, فنحن عندما نذكر العلماء بالذات, فإننا نقصد علماء الدين وعلماء الحديث كونهم ورثه الأنبياء كما جاء في حديث أبي الدرداء في صحيح ابن ماجه وغيره, ذلك أن الأنبياء لم يورّثوا كيمياء ولا فيزياء ولا طب ولا رياضيات إنما ورّثوا الدين, وما عليك إلا أن تقارن بين ذيوع شهرة ابن تيمية وابن قيّم الجوزية وأبي الأعلى المودودي, بما يحملونه من فكر شوفيني تكفيري إقصائي بين عموم المسلمين اليوم, وبين فلاسفة ومفكرين أمثال إبن سينا وابن عربي وابن رشد, لتعرف دلالة لفظ “عالِم” لدى المسلمين منذ بدايات الإسلام حتى اللحظة.

وإن كان الإسلام هو حقاً دين الفطرة, فلماذا كان على الله أن يرسل ألف نبي ونيّف لهداية البشرية إلى “محض فطرتها” الطبيعية, مذ خلقها حتى عهد نبي الإسلام, وإن كان الإسلام هو دين الفطرة حقاً, فلماذا لم يهرع لاعتناقه إلا مليار إنسان فقط من أصل سبعة, رغم مضي خمسة عشر قرناً على نزوله, وإن كان حقاً دين الفطرة, فلماذا لم يفلح في تهذيب وتحسين “فطرة معتنقيه” أنفسهم وهم المسلمون؟!

ولطالما شغلني القول بأن الإسلام الصحيح لم يطبّق لحد الآن, فكيف هذا, أعني كيف لم تقم دولة تحكّم شرع الله حتى اللحظة, فماذا عن المملكة العربية السعودية, ماذا عن جمهورية إيران الإسلامية, ماذا عن دولة طالبان المسلمة, وأفغانستان, والصومال, والسودان, أليست كلها دولاً ترفع لواء تطبيق الشرع الحنيف؟!

ولو افترضنا جدلاً أن هذه الدول لم تطبق الإسلام الصحيح, فلماذا أصلاً لم يطبق الإسلام الصحيح حتى الآن, أليس هو الدين الخاتم المتمِم بوصفه دين الفطرة الكاملة ـ كما يصر المسلمون ـ أفلا ينبغي أن يكون معتنقوه مهيئين لتطبيقه كنظام حياة متكامل لقدسيته وسمو مصدره, فما الذي منع تطبيقه منذ 1500 سنة وحتى اليوم بالضبط؟!

أيعقل أن الإسلام لم يجد أحداً يفهمه حتى اللحظة, أو وُجِد لكنه لم يجد من يطبقه حق التطبيق, ولمَ لم يهيِّئ له الله سبل النفاذ إلى قلوب الناس وحياواتهم حتى يستقيم ويتحقق, وهل يعقل وهو الدين الذي حفظه الله من التحريف, أن يظل موجوداً حكماً, لكنه محرف في التطبيق, أليس في هذا ما يستحق التأمل كثيراً والمراجعة أكثر؟!

أما القول الأغرب بالنسبة لي, فهو الاسترشاد بالآية 96 من سورة الأعراف, التي يزِج بها كل من يلمح سلوكاً بغيضاً لأحد المسلمين يشار فيه إلى الإسلام بالإرهاب, فهو فعلاً يحيرني, فماذا يريد الله منا بالضبط, أيريد أن نكون ملائكة تمشي على الأرض, لا نخطئ لا نأثم لا نرتكب معاصيَ من أي نوع, حتى يمطرنا بالبركات من السماء ومن الأرض, ولماذا لم يمطر بها دولة الإسلام بعهد عمر بن الخطاب, وهو الفاروق, الهيّاب, صاحب رسول الله وصهره, ألم يفتح الله على دولته ـ رغم ورعها والتزامها بالشرع الحنيف ـ باب المجاعة بدل أن يفتح عليها باب البركات, ثم ألا يتعارض هذا الطرح مع الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ( والذي نفسي بيده لو لم تذنبون لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ) التي قدّر فيها الله على عباده الخطايا وأعلن أنه غفار الذنوب, تواب على العالمين؟ّ!

وأخيراً أجدني مضطرة للتساؤل بكل قوة, أفعندما ينصرم القرن العشرين بمخترعاته وإنجازاته على صعيد العلم والفن والفلسفة والبناء والتأسيس والتطور الحضاري والتكنولوجي, بل ويكاد ينتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين والعالم يتجاوزنا هكذا, عندما يحدث كل هذا ويظل المسلمون عاجزين عن تأسيس حالة حضارية وإنسانية وأخلاقية وفكرية تحترم الحياة, وتحترم حق الاختلاف معهم, وترفع من مستوى حياة ووعي شعوبهم, وعندما يحاولون بكل مرة تحسين صورتهم لكنهم يقعون في ما هو أسوأ عبر العصور, أيجب علينا أن نستجوب المسلمين عن السبب في كل هذا أم يجب أن نستجوب الإسلام نفسه؟

سلسلة المقالات التي ستتوالى هنا, معنية بالبحث فيما إذا كان الإسلام بريئاً حقاً من سلوك أتباعه الموسوم اليوم بالتطرف والإرهاب والدموية, والغلو في الرأي والفتاوى المضحكة والمتهافتة التي تستجد كل يوم, وهل الإسلام بريءٌ حقاً من غبن المرأة واستعبادها وشيطنتها وحبسها في مفاهيم العار والعورة, هل هو حقاً غير متورط في ازدراء غير العربي, وفي النظر لغير المسلمين نظرة العداء إلى حد استباحة الدم والعرض والأرض, هل الإسلام متهم بتبخيس الفنون وأشكال التعبير عن الذوق والتطلعات وتحريمها والتنفير منها, هل الإسلام مسؤول عن هذا التدني في الإنتاج على صعيد التحديث الفكري والنظري والجرأة على النقد, هل هو حقاً بريء من قتل المجددين من الشعراء والروائيين والرسامين والكتاب والفنانين أم أنه ينزعج من النقد إلى حد استباحة دمائهم والتفريق بينهم وبين أزواجهم, هل الإسلام عدو لدود لحقوق الإنسان بالمفهوم الذي جاءت به المواثيق الدولية وحقوق الإنسان العالمية, هل الإسلام يقدر خصوصيات الآخرين ويكفل حرمتها أم أنه لا يتورع عن افتضاضها وهتكها في شكل من أشكال إقحام نفسه في شؤون الجميع لكفالة السيطرة على معتنقيه؟!

أسئلة كهذه وربما غيرها ـ إن أسعفنا العمر وواتتنا العزيمة ـ سنخوض فيها قريباً.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا