الإنحطاط السياسي - عين ليبيا

من إعداد: د. عيسى بغني

الإنحطاط المجتمعي يعود إلى الإنحطاط الفكري، ويزدهر عادة في المجتمعات المتأخرة أو عقب الحروب الأهلية، وله سيمات جوهرية ناتجة عن غياب الهدف السامي للقيادات الحاكمة، وغياب الموهبة، والتضارب الداخلي بين المصالح الشخصية ومصالح المجتمع، ويؤدي ذك إلى إنحطاط أخلاقي وزوال المبادئ وتفريغ القيم الدينية أوالمجتمعية من محتواها. إلا أن ألإنحطاط الفكري إن كان محصورا في مفكر أو جماعة فلا ضير، ولكن أن تكون الطبقة السياسية على هذا النحو فتلك طامة كبرى.

يسجل لنا التاريخ فترات إنحطاط فكري كثيرة لعدد من الشعوب في العصر الحديث، ففي أوروبا كانت العشرية بعد الحرب العالمية الأولى أشد إنحطاطا، ولقد عبر أحد المؤرخين الأنجليز عن تلك الفترة بأنه ” عندما يساق الجموع إلى ساحات الموت والفقر والمرض بالملايين ويقبض الساسة ثمن ذلك ثراً وبذخا، فلا لوم على الجماهير أن تتحول إلى وحوش كاسرة ينهش بعضها البعض”، في السنوات الأخيرة ساد الإنحطاط الكثير من الدول الأفريقية مثل أفريقيا الوسطى عقب سقوط بوكاسا، وليبيريا التي عانت من أربعة عشرة سنة من الحروب الأهلية بعد إنقلاب تشارلز تيلور، وسوريا واليمن وليبيا حاليا.  والجدير بالذكر حتى في فترات عالم  الإنحطاط هناك من يتألق فيها ومن يزداد ثراً وشهرة، ومن يشجع لإستمرارها ويدافع عنها، ويجد لها مطبلين وداعمين محليين وإقليميين.

لا شك أن الإنحطاط السياسي له إنعكاسات كثيرة في بنية الدولة وبنية المجتمع، فتلك الدول التي إنهارت مؤسساتها بسبب الثورة على عسف وجور الحكام، عانت من الحروب الأهلية والفساد الإداري والمالي وإنتشار الفقر والمرض والجهل، وإرتهانها للأجنبي بسبب التناحر السياسي، ففي ليبيا نري تعاظم الفسادي المالي والإداري وتفاقم الأزمات الإقتصادية من غلاء الأسعار وشح السيولة وإنهيار العملة وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية في دولة لها كل مقومات الحياة السعيدة لجميع مواطنيها.

نعم الخاسرون ليسوا الساسة الذين تتجاوز مهايا وعطايا كل منهم ما يقارب مرتب ثلاثين موظفا حكوميا، ولكن أفعالهم المنحطة تنعكس على حياة المواطن الذي ألزم نفسه بالبقاء في هذا البلد نافراً للهجرة ورافضا للعيش عالة على شعوب أخرى قامت بتطورير دولها بوسألها ووجدت لنفسها صيغا للتعايش تبدوا لليبيين معجزة.

مظاهر الإنحطاط:

مظاهر الإنحطاط خلال السنوات الخمسة الماضية أكثر من أن تعد، ولكن سنبرز ما لا ران علية من حديث الساعة، أول هذه الأمور تخبط وإنحطاط مجلس النواب وعلى رأسه رئاسته، كيف لنا أن نفهم إجتماع أكثر من مئة وعشرة عضو لإنتخاب محافظ جديد لمصرف ليبيا المركزي دون القيام بتضمين إتفاق الصخيرات (الذي لا إتفاق غيرة للحل) في الإعلان الدستوري، وبذلك يتفرق الشمل دون فائدة تذكر سوى إطالة زمن التشرد المجتمعي من أجل حصد المكاسب للنواب والطبقة السياسية والعسكرية المترممة على هذه المنظومة المقرفة.

كما يعلم الجميع رئاسة مجلس النواب وعلى رأسها عقيلة صالح يتحمل الخطيئة الكبرى في إنحطاط الدولة من أول وهلة لإنتخاب مجلس النواب، رغم أنه يغفل بعده عن السياسة وفهم دهاليزها بقدر إرتهانه للعسكر وللدول الداعمة لهم، وأن هذه الثورة هي التي نفخت فيه الروح ليكون عضوا بحفنة من أوراق الإنتخاب، وكان من الوجاهة الأخلاقية أن يكون وفيا لإرادة التغيير ولشعب الثورة الذي  أوصله إلى هذا المكان، وما كان له ذلك إن بقي في زمن ممن لم يتردد في مبايعته.

مظاهر الإنحطاط أن يستمر الشعب في إمهال الساسة ومنكفاتهم ومتاجرتهم بالقضية الوطنية في شتى فنادق المعمورة أملين الوفاق الذي لن ياتي، من غدامس إلى جينيف إلى مالطا ثم الجزائر والمغرب وحتى غينيا وعمان والإمارات ولم تبقي سوى تل أبيب لم يجتمع فيها الساسة الليبيون لعرض الأفكار المنحطة مثل تقاسم كراسي المجلس الرئاسي أو حقائب الوزرا، لدولة تقطعت أوصالها وإنهار نظامها وتيتم أبنائها وترملت نسائها وأنتهكت سيادتها من دول تنتمي للعالم الخامس.

من مظاهر الإنحطاط أيضاء أن نجد من يسوق للحكم العسكري في القرن الواحد والعشرين، من يطالب بالتفويض للحكم، من يتماهى فيطبل ويزمر لنعال العسكر، ولا يخلوا من ذلك أعضاء في مجلس النواب وآخرون في الحكومات المتعاقبة وغيرهم ممن لا يستطيع العيش بلا أوامر فوقية أو سياط مسلطة على رقاب الجميع.

مظهر أخر للإنحطاط أن يتفرق أعضاء لجنة مصرف ليبيا المركزي شيعا وأحزابا، فلقد إستقال أحدهم وبقي الأخرون برواتبهم وميزاتهم يتفرجون على عوز المواطن ومعاناته أمام المصارف من أجل دراهم، ولا حراك نحو إلتأم إجتماعهم من أجل وضع سياسات نقدية للدولة، وهو ما ساهم في تردي سعر العملة المحلية، بالمقابل ليس هناك سلطة قادرة على إقاتهم.

تشردم المصرف المركزي وإنقسامه شجع على الفساد المالي والإداري، فالتاريخ الحديث لم يسجل إستيراد 340 حاوية مزورة المحتوى ولا قيمة لها إلى ميناء طبرق بمبالغ طائلة من العملة الأجنبية مدفوعة من مصرف ليبيا المركزي بالبيضاء، أما الترويج بأن الشركات الموردة من الجنوب الليبي فهو إدعاء فيه الكثير من الشك، وعلى أهل الجنوب التحقق من هذه التهمة الباطلة، وهناك قرائن كثيرة تؤكد تورط مجلس النواب والحكومة المؤقته في هذه الصفقة لتمويل العسكر في الشرق الليبي.

آفاق الحل:   

هذا الإنحطاط السياسي كما أسلفنا إنعكس سلبا ليس على الإقتصاد فقط بل على الكثير من مناحي الحياه، وما هي إلا مشاكل إدارية ناتجة عن إنحطاط الساسة، فما الحل؟.

الحل يكمن في رفض الساسة ومنكفاتهم ومشاريعم ومتاجرتهم والإتجاه نحو الأمم المتحدة لتبني نمط كوسوفو للحل، أي وجود حاكم تابع للأمم المتحدة لمدة سنتين ينتج عنه إستكمال الأستفتاء عن الدستور وإنتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة، ويتم ذلك بتحرك الجموع، الجماهير، الشعب المغبون، لرفض الواقع المرير بالكلمة الصادقة والإعتصامات وتفنيد الإدعائات المزعومة ورفض التدخل الإقليمي وتدخل دول الجوار، ونزع الحصانة عن النواب ومؤسستاتهم البالية، أما إنتظار التنوير من الإنحطاط فهذا أمل إبليس في الجنة.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا