البداوة كتخلف ثقافي ومعالجة الإسلام لها - عين ليبيا

من إعداد: د. عيسى بغني

لا شك أن الحرب الأهلية حوار استنفد الوسائل السلمية ليستعمل السلاح من أجل كسب المعركة، وتلجأ إلى ذلك المجموعات المهاجمة المتأخرة حضاريا مثل المجموعات القبلية والدينية المتشددة، ففي حين أن إثني عشرة بلدا ينتفض ضد الاستبداد وضد العسكر نجد في ليبيا من يتطوع للحرب معه ويجند نفسه بوقا لوضعه على سدة الحكم في انقطاع ثقافي عن التاريخ وعن العالم، ودون حياة.

ومن استعراض التاريخ الليبي يتبين أن ثقافة البداوة هي المعطل الحقيقي لانطلاق الأمة بداية من العهد العثماني إلى الاصطفاف القبلي أيام الاحتلال الإيطالي ثم تنابزهم في العهد الملكي إلى أن صار لهم منظرا ورسولا للصحراء في العصر الجماهيري.

فالبدوي فردا أو قبيلة في حل من القوانين، وبحياة اجتماعية واقتصادية بسيطة تنتظم في عشائر وقبائل ما قبل الدولة، والبداوة كثقافة لا علاقة لها بالصحراء أو المدينة، فغدامس وجادو وهون ودرنة أكثر تحضرا اجتماعيا من الأبيار والمرج وإجدابيا، والبداوة سمات وتصرفات منها الغلظة والغطرسة والجفوة والكبرياء وضيق الأفق، ومحركها الأساسي المصلحة الأنية الفردية أو الفئوية وبعيدا عن المصالح العليا للدولة الوطنية، وتشترك المجموعات الدينية المتشددة في هذا السلوك باستبدال شيخ القبيلة بشيخ المذهب، فهم فئات لم تتاح لهم معرفة أنماط حياة أخرى سوى ما جبلوا عليه في طفولتهم، والشيخ هو القاضي والقانون والزعيم والمرجع، وتنزيل قوانين لهكذا فئات من أي مجتمع لن تكون حلاً، ونحن نرى الادعاء والتقديس لسيدي إدريس من أحد مسئولي الدولة والقانون في ليبيا  (ومن برقة) أكبر بكثير من احترام الدستور وقوانين الدولة ومن حقوق الإنسان والعهود الدولية، والذي يعتقد أن إدريس السنوسي غاضب على طرابلس لذا يحق لحفتر احتلالها.

رأينا مشهد آخر عندما ادعى القذافي الاستقالة في بداية السبعينات حيث خرج في بنغازي أب يهدد بذبح ابنتيه إن لم يتراجع القذافي عن قراره، وأصبحت تلك الابنة من الراهبات الخُضر لاحقا.

واليوم يدفع البدو بأبنائهم إلى ساحات الموت، وثلاثتهم: زعيم البدو رئيس مجلس النواب وقائد البدو قائد الكرامة وصاحب القناة 218 يجتمعون في أبوظبي ربما للمرة الأخيرة للخروج من مأزق الحرب الأهلية وفشل تنصيب مستبد آخر.

عندما بدأ التنزيل على النبي محمد كان الله يعلم وعلمه حق أن قبائل قريش البدوية المتناحرة فيما بينها، وما في رجالها من غلظة وجفوة لا تقبل بقوانين جديدة تعارض عاداتها، مثل وأد البنات والرباء والغزو لآجل الغنائم، والاسترقاق والسبي وغيرها من الموبقات وأنها لم تتعود على نظام أو قوانين مدنية كما في روما وبيزنطة وفارس، ولذا اقتصر نزول القرآن على أيات التغيير الاجتماعي لأهل مكة وللمؤمنين بالدعوة إلى عبادة الخالق والتراحم بين الناس والتواصي بالحق والأمر بالمعروف، والكثير من الزجر للمتنطعين فكان الوعيد من القارعة والحاقة والصاخة وصقر والحميم، ولم تتعرض الأيات للتشريع، الأمر الأخر أن التشريع يحتاج لسلطة لتنفيذه وهو ما لم يتأتى للرسول في مكة.

للأسف بعد ثلاثة سنوات من الدعوة لم يتجاوز عدد المؤمنين بمكة أربعين مسلماً، وبعد ثلاثة عشرة سنة لم تفلح الدعوة في تغيير أجلاف قريش البدو، فكان القرار الإلهي بالهجرة إلى يثرب التي سميت بالمدينة وبها مجتمع مدني أكثر رقيا وانفتاحا وأكثر علما وفهما بسبب وجود اليهود والروم والأحباش وهم شعوب لهم رسالة إلهية عريقة وقوانين التوراة التي تربوا عليها لعهود.

وصل الرسول يثرب سنة 622م، وبوصوله كان الفاصل بين مجتمع البداوة ومجتمع المدينة؛ المتعدد الثقافات والذي يمكن أن يكون نواة للدولة الإسلامية، وفي هذا المجتمع نزلت كل الأيات المدنية التي تهتم بالتشريع بين الأفراد وبعضها وبين الجماعات والدول وعلاقة المسلمين بغيرهم من الديانات، إضافة إلى تشريعات إقامة الحدود والمواريث، وأحكام البيوع وحتى أحكام أسرى الحرب.

من أجل ذلك نعث الله البدو الأعراب بأنهم أشد كفرا ونفاقا في سورة التوبة وأنهم أسلموا ولم يؤمنوا في أيات أخرى، ولم يستقر النبي بمكة حتى بعد فتحها، بل أذن لشاعره حسان بن ثابت بهجاء سادة قريش في حديث مشهور أنه سيحافظ على نسب الرسول كما تسل الشعرة من العجين، وبنى على ذلك أئمة كثيرون حيث يقول القرطبي بأن شهادة أهل البادية على أهل الحضر تسقط ولا تُقبل، ومنها أن إمامة البدوي لأهل الحَضَر ممنوعة، يعني لا يصح أن يكون البدوي إمامًا في الصلاة للمأمومين من أهل الحضر، وقال مالك: لا يؤمُّ وإن كان أقرأَهم.

استطاعت رسالة الإسلام إرساء قواعد للدولة المدنية الجديدة على أسس العمل الصالح والانتقال من عبادة الأصنام وتقديس الأشخاص إلى عبادة الله وحده. والذي تم النكوس عن هذه المبادئ خلال وبعد الفتنة الكبرى إلى الآن.

محليا ونحن في القرن الواحد والعشرين وبعد ألف وأربعمائة سنه من قراءة أيات الزجر للبداوة تتشبث شخوص متخلفة بهذه الثقافة ويختارها قطاع من الشعب لتمثيله في المجلس الانتقالي والمؤتمر الوطني ومجلس نواب طبرق ولجنة الدستور، مما جعل النكسات تتوالى، من السطو على مقدرات الدولة باستحلال الأملاك العامة، إلى تغيير الإعلان الدستوري بالقوة لتكون لجنة الدستور بالمحاصصة الجهوية، إلى غلق الحقول النفطية إلى تشكيل لجنة السيادة الوطنية (المصرية) إلى تنصيب العسكر وجلب الجنجويد والروس وصعاليك الخليج لتدمير البيوت وتشريد مئات الآلاف من العائلات، وأخرها قطع طريق الطائرات بين الغرب الليبي وشرق المتوسط ومنعها من المرور وتهديدها بالتفجير (موائمة تاريخية لقطع طريق الإبل).

ولا زال هناك من يؤيد ويتبرع بأن يكون بوقا لعودة الاستبداد والتخلف.

لا شك أن البلاد شرقا وغربا وجنوبا ليست عقيمة لتنصيب قيادات متفتحة فاعلة مناضلة تنتمي إلى الوطن وليس إلى القبيلة أو الجهة أو المذهب من أجل تسريع عملية التغيير الاجتماعي والسياسي للدولة من مصاف ثقافة (المرابيع) إلى ثقافة المؤسسات، وعندها يعود الأقزام إلى جحورهم.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا