البرهان القرآني في وجوب الإيمان بالقدر - عين ليبيا
من إعداد: د. علي الصلابي
الإيمان بالقدر هو جزء من العبودية والخضوع لله تعالى، بل هو جزء حقيقي منه لأن معناه، الإيمان بإحاطة علم الله تعالى بكل شيء وشمول إرادته لكل ما يقع في الكون، ونفوذ قدرته في كل شيء. والإيمان بالقدر، الذي جاء به الإسلام هو إيمان بمقتضى الكمال الإلهي الذي تميزت به عقيدة الإسلام، وصححت به أوهام الفلسفات، وانحراف الديانات في شأن الألوهية.
وردت في كتاب الله تعالى آيات تدل على أن الأمور تجري بقدر الله تعالى، وعلى أن الله تعالى علم الأشياء وقدرها في الأزل، وأنها ستقع على وفق ما قدرها ـ سبحانه وتعالى .
قال تعالى:” إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ” (القمر: 49) قدر الله كل شيء في الأزل وكتبه سبحانه.
وقوله تعالى:” سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا” (الأحزاب، آية 38) . أي قضاء مقضيا، وحكماً مبتوتاً وهو كظل ظليل، وليل أليل، وروض أريض في قصد التأكيد.
وقوله تعالى:” فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى”(طه: 40) ، أي أنه جاء موافقاً لقدر الله تعالى وإرادته على غير ميعاد .
وقوله تعالى:”فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ” (المرسلات: 21ـ 23) . أي جعلنا الماء في مقر يتمكن فيه وهو الرحم، مؤجلاً إلى قدر معلوم قد علمه الله ـ سبحانه وتعالى ـ وحكم به، فقدرنا على ذلك تقديراً فنعم القادرون نحن، أو: فقدرنا ذلك تقديراً فنعم المقدرون له نحن على قراءتين، والقراءة الثانية “قدَّرنا” بالتشديد توافق قوله تعالى:” مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ” (عبس: 19) .
وقال تعالى:” وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا” (الفرقان: 2) : أي كل شيءٍ مما سواه مخلوق مربوب، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، وكل شيءٍ تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره. وقال تعالى:” وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ” (الرعد: 8) أي: بأجل، كحفظ أرزاق خلقه وآجالهم، وجعل لذلك أجلاً معلوماً .
وقال تعالى:” وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّبِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ” (الحجر: 21) . يخبر تعالى أنه مالك كل شيء، وأن كل شيءٍ سهل عليه يسير لديه، وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الصنوف، ” وَمَانُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ” كما يشاء وكما يريد ولما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعباده لا على جهة الوجوب بل هو كتب على نفسه الرحمة. وقال تعالى:” نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَانَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ” (الواقعة: 60) أي: صرفناه بينكم “وَمَانَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ” أي: وما نحن بعاجزين. وقال تعالى:” وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ” (فصلت: 10) .
وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن الله قدر كل شيء.
كان جميعُ الأنبياء والرسل ومن تبعهم معتقدين بعقيدة التوحيد الخالصة الصحيحة، كما أوحى إليهم ربهم تبارك وتعالى، والإيمان بصفات الله تعالى، ومنها، العلم والقدرة والإرادة والخلق كلها داخلة في التوحيد الذي هو أساس دين الإسلام، وتحدث القرآن الكريم عن الأنبياء وغيرهم، وبين قولهم بالقدر، وبأن ما شاء الله كان، وما لم يشأن لا يكون.
سأصبر بمشيئة الله ولكن هل الاستثناء شامل قوله: “وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا” أولاً؟ قولان للمفسرين والأرجح شموله لهما، قال في تفسير الجلالين “قَالَ سَتَجِدُنِي إِنشَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا” أي: وغير عاصٍ “لَكَ أَمْرًا” تأمرني به، وقيد بالمشيئة لأنه لم يكن على ثقة من نفسه فيما التزم، وهذه عادة الأنبياء والأولياء ألا يثقوا إلى أنفسهم طرفة عين . فتعليق الأمر بمشيئة الله تعالى دليل على إيمان موسى بأن أي شئ لا يكون إلا إذا أراده الله وشاءه، وقصة موسى والخضر كلها في باب القدر، وقد وردت بتمامها في صحيح البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: “يرحم الله موسى وددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما”.
ليس الإله في الإسلام إلهاً معزولاً عما يجري في الكون لا يعلمه ولا يتدخل فيه بتدبير ولا تصريف ك”إله أرسطو” الذي لا يعرف إلا ذاته، ولا يعلم عن هذا الكون شيئاً، ولا يدبر فيه أمراً، أو “إله أفلوطين” الذي لا يعلم ذاته نفسها. وليس كإله المجوس، الذي له نصف الكون يدبره ويتصرف فيه، وهو ما يتعلق بالخير والنور، أما النصف الآخر وهو ما يتصل بالشر والظلمة، فذلك من شأن إله آخر، فهما إلهان إذن: أحدهما إله الخير والنور، والآخر إله الشر والظلمة والحرب بينهما سجال حتى ينتصر إله الخير في النهاية.
وليس هو كآلهة اليونان، التي تخبط في تصرفاتها خبط عشواء والتي تعيش في حرب مع البشر، حتى إن رواياتهم عن القدر وضرباته للناس تمثله هازئاً بهم، متحدياً لهم، يطاردهم ويتجنى عليهم، ولهذا كثر الحديث في أدبهم عن قسوة القدر، وعن القدر الأعمى، والقدر الغاشم ونحو ذلك.
وليس كإله بني إسرائيل، الذي تصوره توراتهم المحرفة، وكتبهم واساطيرهم، غيوراً منتقماً مدمراً، متعصباً لشعب إسرائيل دون العالمين، خائفاً من الإنسان أن يأكل من شجرة الحياة، فيصبح كواحد من الآلهة، نادماً على ما يفعله في بعض الأحيان عاجزاً عن مقاومة الإنسان، حتى إن إسرائيل ليصارعه فيصرعه .
ليس هذا الذي تتصوره أو تصوره الديانات والفلسفات هو إله الإسلام، إنما الإله في الإسلام هو مالك الملك، وصاحب الخلق والأمر، رب العالمين، هو خالق كل شيء عن قبضة قهره، ولا حي أو جماد عن دائرة سلطانه، يحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء، ولا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو مع هذا بر كريم، عدل رحيم، عليم حكيم، لا يظلم أحداً، ولا يأخذ مخلوقاً بذنب غيره، ولا يبخسه أجر سعيه، فلا يخاف أحد عنده ظلماً ولا هضماً، والظلم: أن يعاقبه بما لم يفعل والهضم: أن يضيع أجر ما قد عمل، والله سبحانه لا يعاقب بغير سيئة ولا يضيع أجر حسنة، بل يضاعفها كما قال سبحانه:” إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرً عَظِيمًا” (النساء: 40).
هذا هو الإله الذي يجري كل شيء في الكون بتقديره وتدبيره بعلمه ومشيئته ومقتضى حكمته، وعلى هذا الأساس كان إيمان السلف بالقدر من الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، فليس الإيمان بالقدر إيماناً بالبخت والمصادفات والعشوائية في الكون، كهؤلاء الذين ينقلون إلى العربية التغييرات اليونانية والغربية عن القدر فتراهم يقولون: القدر الأعمى، والقدر الأحمق، والقدر الغاشم، وعبث الأقدار، وسخرية القدر ونحوها، وهي ألفاظ وتعبيرات يبرأ منها الإسلام والمسلمون، إنما هو إيمان بإحاطة علم الله وعموم مشيئته وشمول قدرته، وربوبيته لكل ما في الكون وإن كل ما يحدث في الوجود إنما يتم بناء على ترتيب أو تصميم سابق، وتدبير قدير، وتقدير عزيز عليم .
المراجع:
جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا