التاج أو القوس.. هل تستعيد ليبيا دستور 1963؟ - عين ليبيا
من إعداد: د. محمد فؤاد وعماد الدين المنتصر
تعاني كثير من دول الشرق الأوسط بعد الاستعمار من صعوبة توحيد مختلف الفرق الدينية والاثنية فى دولة واحدة. الا ان الوضع فى ليبيا مختلف تماما فأغلبية السكان هم من العرب ولا توجد اقليات دينية مهمة الا انه ومع ذلك، فالبلاد اليوم تواجه انقسامات خطيرة فد تهدد وحدتها. تتركز المشاكل حول منطقتين من المناطق الرئيسية الثلاث في ليبيا، برقة في الشرق، وطرابلس في الغرب (مقاطعة ليبيا التاريخية الثالثة، فزان، الممتدة إلى الجنوب من طرابلس، تتوافق وجهات نظرها كثيرا مع جارتها في الشمال)). وبينما كانت سنوات القذافي تمثل فترة من السيطرة المركزية القمعية على جميع المناطق الليبية، فإن الحرية بعد الثورة تسببت في طفو هذه التوترات الموجودة منذ فترة طويلة على السطح. ولمواجهة هذا الانقسام المُتزايد، ينبغي على الليبيين أن يعتمدوا على وجه السرعة دستوراً يوفر صيغة أساسية للتعايش مع بعضهم البعض. ومع فشل هيئة كتابة صياغة الدستور فان دستور ما قبل القذافي لعام 1963 يحتوي على مثل هذه الصيغة. اما تقسيم ليبيا على طول الحدود التاريخية بين طرابلس / برقة، فسيكون ملاذاً أخيراً مناسبا إذا ظل الحل الدستوري بعيد المنال.
في شهر مارس 2012 اجتمع العديد من انصار الفيدرالية في ما عرف فيما بعد باجتماع مصنع الصابون بمدينة بنغازي لإعلان مطالبهم, وتم اختيار الزبير السنوسي احد اقارب الملك ادريس رئيسا لهذا الحراك وبعد ذلك وفي شهر يونيو من نفس السنة قام عبدالجواد البدين و هو احد اعضاء الجماعة الليبية المقاتلة, بإغلاق الطريق الساحلي الرابط بين طرابلس و بنغازي, في منطقة الوادي الاحمر”الرمزية” شرق مدينة سرت احتجاجا على طريقة توزيع المقاعد في المؤتمر الوطني, وللمطالبة بان تكون لجنة الستين لكتابة الدستور الليبي الجديد بالانتخاب و بالمساواة بين اقاليم ليبيا التاريخية… مما ادى بالمجلس الانتقالي لإصدار التعديل الدستوري الاول والذى ينص على ان اتخاذ القرارات في المؤتمر الوطني يكون بأغلبية الثلثين وعلى انتخاب هيئة الدستور بالمساواة بين الاقاليم .وبعد نزاع قانونيا وسياسي استمر لأشهر تمت الموافقة على مطالبهم. الا ان النتائج كانت كارثية فالمؤتمر الوطني وبسبب هذا التعديل أصبح عاجزا عن اتخاذ القرارات المفصلية، و الى اليوم وبعد 6 سنوات من الثورة فالبلاد لازالت من غير دستور،
أصبحت الفجوة بين الشرق والغرب أكثر اتساعاً مع اتخاذ مجلس النواب الليبي الجديد، الذي اُنتخب في عام 2014، طبرق في الشرق مقراً له. وأقدم هذا المجلس على تشكيل بنك مركزي مواز، ومؤسسة نفط وطنية، وحكومة مقرها شرقي ليبيا. اما رجل برقة القوى فهو ولا شك خليفة حفتر الضابط العسكري السابق والذي قاد قوى عسكرية اغلبها من قبائل الشرق لطرد قادة من ثار على القذافي من بنغازي بحجة الحرب على الارهاب والتخلص من الاسلاميين، الا انه ومن يعرف خبايا الامور فان القبائل في زواجها المصلحي مع حفتر كانت تهدف لكسر شوكة هؤلاء لان اكثرهم ينحدرون من اصول من المنطقة الغربية وهدفهم الحقيقي كان السيطرة على بنغازي وليس حرب الاسلاميين. الا ان زواج المتعة بين الفيدراليين وحفتر في طريقه الى النهاية كما يبدو فحفتر يهدف الى السلطة وتوريثها الى ابنائه، وقد منع الفيدراليين من رفع علم برقة وقام بتدمير بوابة الوادي الاحمر كما انه انتهج سياسات قديمة ناجحة من قبيل سياسات اغتيال خصومه، وتأجيج قبيلة ضد الأخرى، أو زرع الانقسامات داخل نفس القبيلة. ولتعويض النقص في المقاتلين، اعتمد حفتر على ما يعرف بالسلفية المدخلية وهي مجموعة سلفية تقدس ولى الامر وتعتبر ان كل من عارضه هو من الخوارج الذين يجب قتالهم وذلك كنوع من الغطاء الديني ودعمت هذه المجموعة الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط بما في ذلك نظام القذافي. وقد تم تنصيب حكام عسكريين في معظم المناطق في شرق ليبيا وتمت إزالة بعض المسؤولين المُنتخبين من المجالس المحلية. وخضعت خُطًب الجمعة للرقابة الصارمة، بل ان السفر خارج ليبيا أصبح يتطلب إذنا من الأجهزة الأمنية، مما يذكرنا بنظام القذافي الذي حكم ليبيا امدة 42 عاماً. ووجد حفتر في الأنظمة الاستبدادية الإقليمية شركاء مُستعدين لمُساعدته وصارت الأموال والمعدات العسكرية تتدفق له على الرغم من وجود عقوبات دولية. تمكن حفتر على وجه الخصوص من ايحاد تحالف مع الرئيس المصري السيسي، والامارات المتحدة، ومؤخراً مع روسيا.
يجادل البعض ان فشل هيئة صياغة الدستور، التي أُنشأت في أبريل 2014، لإعداد دستور قابل للتطبيق هو القشة التي قصمت ظهر البعير. الانقسامات القبلية والإقليمية والفساد، والانتهاكات القانونية التي ابتليت بها هيئة صياغة الدستور مع الاصرار على المطالب الفدرالية، ادت الى عجز الهيئة. وبسبب التعديل الدستوري الاول، يشكل ممثلو المناطق التي تضم ثلثي سكان ليبيا ثلث عدد أعضاء الهيئة فقط، وقد قاطعت الأقلية الأمازيغية الهيئة بشكل كامل. وتناوب ممثلو “برقة” بلا كلل من أجل إعداد مشروع دستوري يتيح لهم السيطرة على المؤسسات السياسية والاقتصادية، مشروع دستور مبني على أساس “المحاصصة الإقليمية” بما في ذلك المناصب الحكومية. اما المصلحة الوطنية، وبكل بساطة، فقد اصبحت خارج الموضوع. وبعد ثلاث سنوات، لم يتم إعداد مشروع دستور. بل بدلاً من ذلك، تم تقديم مشروعين معيبين رفضهما القضاء ولم يتم التوافق عليهما داخل الهيئة. وربما كان الأسوء “المسودة كلها كارثية” في هذه المشاريع المقدمة ان الصوت الانتخابي في برقة يساوى أربعة أصوات من طرابلس، بل وحتى توزيع الاصوات الانتخابية داخل برقة نفسها تم تصميمه لتستفيد منه القبائل ضد مدينة بنغازي نفسها. ولاتزال الأزمة الدستورية قائمة دون وجود حل جذري لها.
سيكون على الليبيين اتخاذ بعض القرارات الصعبة قريباً. أحد هذه الخيارات هو العودة إلى دستور 1963 الاتحادي. منح دستور 1951 قدراً كبيراً من السلطة للولايات. رغم ان صياغة هذا الدستور تمت قبل اكتشاف احتياطيات النفط في البلاد، والعديد من التغييرات التي أدخلها دستور 1963 على دستور 1951 كانت للحد من سلطة الولايات لصالح الحكومة المركزية. ادى الدستور الاتحادي الى قسمة ليبيا اداريا الى 10 محافظات بدلا من 3 ولايات ومع بعض التعديلات البسيطة كزيادة صلاحيات هذه المحافظات وبالنظر إلى الفروقات الكبيرة في عدد السكان، فإن هذا يوفر نوعا من التوازن بين المناطق الاقل سكانا الموجودة في الشرق والجنوب والمناطق الاكثر سكانا الموجودة في الغرب، مما قد يرضى جانبا كبيرا من تطلعات الفيدراليين. كما يمكن استبدال النظام الملكي بنظام رئاسي أو برلماني إذا رفضت الملكية. وبمجرد انقضاء فترة انتقالية لبضع سنوات، سيصبح الليبيون أحراراً في اعتماد هذا الدستور المُحدث أو البحث عن دستور جديد. إن موضوع العودة إلى دستور عام 1963 يكتسب زخماً وتأييداً كبيراً في ليبيا، مع ظهور العديد من الحركات، بدءاً بالداعين لعودة الملكية ثم الداعين لاعتماد هذا الدستور مع الغاء الملكية الى الفيدراليين أنفسهم والذين يطالبون بالتصويت على الفيدرالية.
الفشل في ايجاد حل توافقي كدستور سنة 1963 والبناء عليه قد يؤدي إلى انقسام البلاد والانفصال ليس بالضرورة خيار سيء بل هو أفضل من استمرار الفوضى الحالية.
هناك مثالان يمكن ان يتطلع اليهما الليبيون بجدية، اولها سيناريو تشكوسلوفاكيا سنة 1993 حيث كان الانفصال سهلا وسلسا وأدى إلى قيام دولتين ناجحتين. الا انه هناك سيناريو السودان والذي يشبه كثيرا السيناريو الليبي، حيث ادت احتجاجات الجنوب حول التهميش واستئثار الشمال بعائدات النفط والذي اغلب حقوله في الجنوب الى الانفصال. الا ان التركيبة القبلية الجنوبية وعدم القدرة على ادارة الدولة والحكم العسكري كانت نتائجها كارثية وأدى هذا إلى دمار الدولة الوليدة وإلى حرب اهلية مستمرة الى اليوم. يبدو ان هذا الخيار يراه حتى بعض الخبراء الدوليين، فباولو سكاروني رئيس شركة ايني الايطالية الاسبق واحد أكبر الخبراء في الملف الليبي، يقول ربما يكون الانفصال المؤقت هو الحل اليوم ولا يجب ان تقلق الاقاليم حول موارد النفط فكل اقليم لديه موارده التي تكفيه. الا ان الحديث عن اقليم فزان مختلف بعض الشيء والأرجح ان يختار الاقليم البقاء مع طرابلس اذ ان الانفصال يهدد وجود الاقليم نفسه وتركيبته السكانية حيث انه وفى ظل الفوضى الحالية فان كثيرا من التبو والطوارق غير الليبيين هاجروا ليقيموا مع اقاربهم الليبيين في فزان وفى ظل هجرة كثير من السكان الى طرابلس الاكثر امنا فان الانفصال عن طرابلس سيهدد بتغيير تركيبة سكان الاقليم كليا. لا شك ان الغرب الليبي يعاني هو ايضا من مشاكل معقدة الا ان ضعف التأثير القبلي والتطلع الى الديمقراطية ورفض حكم العسكر سوف يؤدى الى الاستقرار في النهاية. يبقى دستور 1963 والذى تتصاعد المطالبة به تدريجيا الامل الاخير في الحفاظ على وحدة الدولة وربما يكون هو مبادرة السلام الاخيرة التي يقدمها سكان الغرب ولكن اذا تم رفض هذه اليد الممدودة للسلام ومع تدهور الاحوال المعيشية الحالي، فان ثمن الوحدة يصبح اغلى مما يستطيع الليبيون دفعه للحفاظ عليها. .
[su_divider top=”no” size=”1″]
مترجم من مقال نشر في “معهد دراسات الشرق الأوسط” مدل أيس أنستيتيوت
[su_note note_color=”#ecebc8″ text_color=”#000000″]هذا المقال بقلم: د. محمد فؤاد وعماد الدين المنتصر[/su_note]
جميع الحقوق محفوظة © 2025 عين ليبيا