الترتيبات الأمنية - عين ليبيا

من إعداد: د. عيسى بغني

من أعقد وأهم االبنود التي صدرت من أطراف إتفاق الزاوية في التاسع من سبتمبر الحالي مسألة الترتيبات الأمنية، والتي لها معاني حمالة لعدة أوجه، لولا وجود فقرة يتيمة في البيان وهي الفقرة الثامنة الخاصة بوقف القرارات التي تم فيها إسناد مهام الدولة للتشكيلات المسلحة.

هذه الفقرة تختصر المشهد بكامله، والتي تعني أن بناء مؤسسات الدولة يجب أن يتخطى المجموعات المسلحة الحالية وأن يتم تحييدها ، وهو السبب الرئيس للحرب الدائرة بطرابلس منذ شهر تقريبا، أي ان وجود مجموعات مسلحة باشخاص مختلطين مدنيين وعسكريين ولا توجد تراتبية عسكرية واضحة، وشيوع مبداء تلقي أوامرها مباشرة من أمرائها وليس من الدولة، يجعلها خارج النسق المعهود للقوى الأمنية لآي دولة وإن كانت تابعيتها رسمية لأنظمة الدولة، ولقد راينا ظهور ملثمين يتلون بيانات على وسائل التواصل الإجتماعي ويعلون بداية غزوات، ربما بمعزل عن أوامر قياداتهم وبالتأكيد بمعزل عن أوامر وزارة الداخلية.

بغض النظر عن إستغلال الدول الإقليمية لهذه الشعارات من أجل الحصول على مكاسب، وإستغلال بعض التوجهات القبلية والجهوية للحصول على موطى قدم تحظيرا لما بعد الإنتخابات القادمة، وبعيداً عن سمة أخذ الثار للمجموعات المندهرة سابقا، فإن الترتيبات الأمنية بمعنى التحول إلى مؤسسات نظامية مهنية على درجة كبيرة من الأهمية.

خلال الثلاث سنوات الماضية شعر المواطن في طرابلس بالأمن مقارنة بإضطرابات سنة 2013م ، ثم كانت الموجة الثانية مع إندلاع الحرب الحالية يوم 26 أغسطس الماضي،  ولقد قامت الكتائب المسلحة المختلفة بدور كبير في إستثباب الامن وكبح جماح المجموعات الخارجة عن القانون، من دواعش وتجار مخدرات واللصوص وقطاع الطرق، ومجموعات الجريمة المنظمة.

رغم تلك المكاسب فإن هذه الاجهزة تنقصها الكثير من المهنية، فاللواء 301 الذي شهد له الجميع بتامين جنوب طرابلس كان يجبي ضرائب على المحلات التجارية وهو إجراء غير قانوني، وفي لحظة من الزمان ودون سابق إندار إنسحب اللواء من جميع مقراته يوم 27 أغسطس وأصبحت المنطقة الجنوبية لطرابلس مرتعا للصوص وقطاع الطرق والحرابة. بالمثل وفي نفس التاريخ إنسحبت  قوة جهاز الأمن العام إلى داخل العاصمة وخلى الطريق من السواني إلى بئر الغنم بلا بوابات أو دوريات، مما أزعج الكثير من المسافرين.

نقص المهنية والإنضباطية (بمعنى: التنظيم والقيادة والسيطرة) لاحظها القاسي والداني أمام المصارف وعند محطات الوقود وفي تسيير حركة المرور من هذه المجموعات، وعند البوابات والإستقافات، وحتى في التعامل مع الجريمة وفي ميدان المعارك، والتي تحتاج إلى تدريب كبير وتغيير مهني ليكون منهم شرطي المرور أو العسكري المنضبط أو رجل مامور الضبط القضائي أو مسئول تفتيش في المطار أو مسئول عن أمن البعثات والمراسم.

نحن لا نخترع العجلة، فالعالم عندما توصل إلى بناء مؤسسات كان قد قضي قرون عديدة من التجارب الأليمة حتى ترسخت القيم المدنية الحالية، وأصبح لكل إختصاصه ومهامه المحددة. من الأخطاء القاتلة التي تسببت في الحرب الحالية سؤ إدارة الرئاسي للدولة من حيث التباطؤ في تحويل المجموعات المسلحة والمناطة بها حفظ الأمن إلى مؤسسات دولة، فالقرار 555 لسنة 2018 لم يساهم في إعادة هيكلة وتوزيع المهام لقوة الردع الخاصة بل زاد من مهامها بطريقة شبيهة للشركات الكورية، (سامسونج تصنع في النقالات والسيارات وبناء الخزانات ولها وحتى الغسالات والمحركات) هذا القرار معطل لمسيرة بناء المؤسسات، حيث قام بتحويل قوة الردع الخاصة إلى جهاز الردع بتوسعة كبيرة لمهام متنوعة مثل مكافحة العصابات الإجرامية التي تمتهن الجريمة المنظمة في التهريب وتجارة المخدرات والوقود والسرقة والحرابة، إضافة إلى المساهمة في حماية وتأمين الحدود ومنافذ الدخول والخروج كما تقوم باتخاذ التدابير اللازمة لتعقب أعضاء عصابات الجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية ومراقبتهم وتتبع مصادر تمويلهم، وتنفيذ الخطط الأمنية الكفيلة بتأمين الانتخابات والاحتفالات العامة والفعاليات الرسمية وغير الرسمية المرخص بها ومكافحة أعمال الشغب ومظاهر الإخلال بالأمن العام. وهي مهام لأجهزة كثيرة مثل جهاز الشرطة وجهاز مكافحة المخدرات، وجهازالأمن الداخلي وجهاز الأمن الخارجي وقوة حرس الحدود، والحرس الوطني، وجهاز تأمين السجون.

من الواضح ان هذا التكليف على طريقة بائع الشاي الذي يفتي في كل شئ، لا يساعد على بناء الدولة بسبب عدم القدرة على الإيفاء بتلك المهام، فرغم أن الجريمة في طرابلس قد قلت كثيرا إلا أن تهريب الوقود والهجرة غير القانونية وغسيل الأموال والتعدي على مؤسسات الدولة وإشاعة العنف قد زاد كثيرا مع تسجيل حالات تعدي على الحريات العامة كما تدل على ذلك بيانات المؤسسات الدولية، مما ساعد على إتساع الرقعة عن الراقع.

بالمقابل القوات التي اخذت على عاتقها تنفيذ بنود الترتيبات الأمنية بالقوة والقادمة من خارج طرابلس لا زالت مستمرة في أعمالها الحربية التي شردت الاف المواطنين وازهقت الأرواح وعطلت الدولة واوقفت شرايين الحياة، مثل تدمير مستودع النفط وغلق المطار الوحيد بالمنطقة الغربية، وهدم عشرات البيوت، وزرع الرعب بين المواطنين، على أمل أن يتحمل الرئاسي مسئوليته ويقوم بتنفيذ الترتيبات الأمنية، التي تتلخص في تحييد القوى المقاتلة الحالية وإعادة بناء الجيش باركاناته  والشرطة بمديرياتها وحرس الحدود بكتائبه وحرس المنشأة والمطارات والأمن الداخلي أو مباحث أمن الدولة والامن الخارجي وجهاز مكافحة المخدرات.

الضغوط العسكرية والسياسية على الرئاسي وبمساندة مجموعة الدعم الأممية قد تفضي إلى حلول جذرية، ينطلق من خلالها برنامج بناء المؤسسات المعطل لسنوات عديدة، وينهي سنوات التيه والفوضى العارمة، وقد يكون هذا المسار بابا مهما لإنهاء الاجسام السياسية الحالية والذهاب إلى إنتخابات برلمانية ورئاسية جديدة بروح جديدة فاعلة، وتنتهي معه ثقافة الغنيمة، والجهوية والقبلية المقيته، فليبيا لها موارد كفيلة بالجميع إن شمر الجميع على سواعد الجد.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا