التفاهمات الليبية التركية في ميزان المصالح - عين ليبيا

من إعداد: د. عيسى بغني

مذكرة النفاهمات بين الحكومتين الليبية والتركية تدل على عمق الصداقة والتواصل الحضاري بين الدولتين، فتركيا أكثر حكمة في معالجة الأمور، والأكثر انحيازاً لحقوق الشعوب الإسلامية باستقلالية منقطعة النظير، وهي الدولة الإسلامية المحورية الأكبر اقتصادا والأكثر نمواً في الشرق الأوسط.

منذ سنوات ودول الاستبداد تمثل العصاء الغليظة لأمريكا في الشرق الأوسط (كدور قذر)، فمولت مشروع إسقاط الحكومة العراقية، وقلب الحكم في مصر وإدخال الفوضى في اليمن وليبيا وتعطيل التحول في الجزائر وتحوير التغيير في السودان، ولم نرى تركيا في هكذا مواقف عميلة، بل هي المدافع عن الحقوق الفلسطينية إلى درجة الرد المباشر لأردوغان على إسحاق شامير في منتدى دافوس سنة 2009 حول إنهاكات إسرائيل ضد قطاع غزة، بل إنسحب دفاعاً عن القضية الفلسطينة، وبقي في الإجتماع ثلة من المستبدين العرب لم تتحرك لهم شعرة.

مذكرة التفاهمات كان يمكن أن تكون منذ سنوات ولكن بطء المجلس الرئاسي كعادته جعل توقيعها متأخرا، وتتضمن المذكرة جزئين منفصلين، إحداهما تطوير العلاقات الليبية التركية في المجالات الإقتصادية والأمنية، من تشجيع التبادل التجاري وتبادل المعلومات ومكافحة الإرهاب، وخاصة أنها لها خبرة طويلة في هذا المجال، بالإضافة إلى الدعم العسكري وهو مستمر وعلني حتى قبل توقيع هذه التفاهمات.

يقول المثل الشعبي: على قدر الألم يكون الصراخ؛ الإنزعاج المصري طبيعي جداً، بعد إستدعاء الأمريكان لحفتر في الأردن وإبلاغة برسالة مفادها عليك أن تضع خطوات عملية لإيقاف الحرب والإنسحاب، وبذلك أفل نجم حفتر، ولو بعد حين، بالمقابل توقيع التفاهمات بين الوفاق والعدو اللدود لمصر تركيا قطع شعرة معاوية للحصول على أي مشاريع إعمار في ليبيا، خسرت مصر سوق العمالة ومجال مشاريع كبيرة بسبب سياساتها المنحازة للإستبداد المحلي المستورد. إضافة إلى إيقاف أمريكا لدور (—– ة) أو إسكافي الشرطي الأمريكي في الشرق الأوسط، بعد أن دخل الكبار في اللعبة لدعمها، ممن لهم سلطة الفعل ضمن القانون. أما عن إدعاءات عدم شرعية الإتفاق فلا يحتاج إلى مناقشة، فحكومة الوفاق لها إعتراف دولي بمقعد في الهيئة الأممية، ولا تحتاج لنواب إنتهت صلاحتهم للتصديق، ودول الإستبداد جميعا لها سفارات ممثلة عند حكومة الوفاق.

الشق الأخر من التفاهمات هو ترسيم الحدود البحرية للطرفين في البحر المتوسط، وهذا البند له علاقة بإتفاق الشراكة بين مصر وإسرائيل وقبرص اليونانية لإستخراج الغاز من شرق المتوسط  وإقامة خط غاز يمر بجزيرة كريت إلى إيطاليا ومنه إلى أوروبا بتكلفة سبعة مليار دولار، والتي منعت قبرص الشمالية من الإشتراك فيه إلا بإنضوائها تحت قبرص اليونانية، وهو ما جعل تركيا ترسل بواخر الحفر إلى شمال قبرص من أجل التنقيب عن الغاز.

كما أن إعتبار الحدود التركية متاخمة للحدود البحرية الليبية يفتح ملف استيلاء اليونان على مساحات كبيرة تقدر ب 93000 كم مربع من المسطحات البحرية الليبية جنوب جزيرة كريت، والتي تعتزم اليونان بناء منصات بحرية بها لإستخراج النفط والغاز، علما بأن الأراضي الليبية القابلة لإستغلال مواردها أي المنطقة البحرية الخاصة تصل إلى 200 ميل بحري (370 كم) وهي مسافة تتجاوز بُعد شواطي كريت عن طبرق، إذن فإنزعاج اليونان مبرر لخوفها من رفع قضايا حول الجرف القاري الليبي في المنطقة الشرقية، ومنعها من التنقيب في جزيرة كريت إضافة إلى عدائها المازوم لتركيا.

العداء لتركيا من دول الإستبداد هو عداء إدعاء الزعامة، وحسد البدوى للمنجازات التي وصل إليها الشعب التركي، والبون شاسع؛ فحين شُرد السوريين بالملايين  وجدوا تركيا حضناً لهم، وأقفلت دول الإستبداد حدودها عنهم رغم إستنجادهم المتكرر، ولقد أبهر الشعب التركي العالم في مواقفه عند التعامل مع الإنقلابيين الذين رفضهم وإستلقي في الشوارع مقاوما للدبابات، في حين هلل غيرهم للعسكر، وإستطاعت الحكومة إدارة قضية الخاشقجي بجدارة، وهي عضو فاعل في حلف الناتو ولكن لم يمنعها من شراء منظومة الصواريخ (S400) الروسية التي تجعلها ذات تفوق جوي في المنطقة، وهي ضمن حلف عسكري مع الباكستان، ولها علاقات جيدة مع إيران وأمريكا في آن واحد.

تاريخيا، وقعت طرابلس تحت حكم فرسان القديس يوحنا الذين عثوا في الارض فساداً، فذهب وفد من ليبيا يستنجد بالسلطان العثماني (كخليفة للمسلمين) لتحرير طرابلس من المستعمرين، فأرسل القائد العثماني درغوت باشا حيث إستطاع طرد فرسان مالطا بعد حرب دامية سنة 1551م، وإستمر الدعم العثماني للمجاهدين الليبيين حتى بعد معاهدة أوشي.

خلاصة القول أن هناك فرق كبير بين بائع المسك ونافخ الكير، ومن يتبع الرجال ومن يتبع الاندال، ومن يبيع عرضه ومن يدود عليها وبين من له بعد النظر ومن يقتصر نظره عند قدميه، فيهلك ويُوهلك يقول المتنبي:

  ومن العداوة ما يُصيبُكَ نفعُهُ *** ومن الصداقةِ ما يضُرُّ ويُؤلِمُ 



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا