التهميش المقصود والهدم الممنهج والاقصاء المتعمد (1) - عين ليبيا

من إعداد: د. أحمد معيوف

الى السيد النائب المستشار سليمان زوبي

مع فائق التقدير

لقد كثر الحديث عن التهميش، وتحديدا تهميش الشرق بصورة عامة وتهميش بنغازي بصورة خاصة، وكأن التهميش يقتصر فقط على هذه الربوع من ربوع الوطن. تجادبت الاطراف المختلفة حوارات ساخنة وباردة في قضية التهميش، وأُقْتُرِحت لها الحلول الرومانسية التي تعزف على هواجس الوطن الواحد، والردكالية التي لا تجد في حلول للتهميش الا مقصات الجراحين. واقترحت الفيدرالية واللامركزية وما اليها من حلول، وان كنا نبارك هذا الحراك الذي من إجابياته اثراء الحوار وترسيح لغته، الا اننا نراه كمن يريد ان يضع العربة امام الحصان، فالوقت لم يحن بعد لهذه القضية، التي اراها … في افق اعتقادي … بان استحقاقها ياتي بعد بناء الدولة.

وياتي الان السؤال الذي يحق له ان يُسأل: هل التهميش قُصِد به منطقة بعينها، ام انه سياسة شملت الجميع دون استثناء؟. اني انقل القاري في مقالي هذا عبر محاور ثلاث اراها تسلط الضوء وتسهل في الاجابة  عن هذا السؤال.

الهدم الممنهج: طرابلس، عروس سُلِبَتْ زينتها

يقترب عمر طرابلس من نهاية الالفية الثالثة، وهذا عمر له معناه في تاريخ العمارة البشرية، فلا يمكن ان يتصور عاقل مدينة بهذا العمر خلُصت من الاحتكاك والاختلاط بالحضارات البشرية التليدة، والتي كان موطنها حوض البحر الابيض المتوسط وما دنا منه. وقد حبا الله طرابلس بان يكون لها مركز يتوسط هذا المحيط الحضاري، فما كان منها الا ان اصبحت موطن لكل منتصر، فعمرها الفينيقيون وسكنها الرومان واستوطنها العرب واحتلها الاسبان وسادها القره ماليون واستعمرها الايطاليون وادارها الانجليز. وهكذ … زُرِع فيها من كل بستان زهرة، فاصبحت روضة مزدانة، وحديقة غناء مترعة بالحسن والجمال. ولو قلب الناظر نظره في صورها المحفوضة عبر احقاب التاريخ المختلفة، لهاله ما الت اليه، ودمعت عيناه مما لحقها من ضيم.

من الاشعار التي قيلت في وصف طرابلس في ماضيها[i]:

بلاد لهــــــا بالخلـــد شبــــــهة ايـــة       فمنها نبـــــــــات الزعفران كذا العنب

ترى سوحها من فضـة  فإذا اكتست        بشمس الضحي اضحـت لجينتها ذهب

وفي كل حول حولهــا حُلــــــة حَلت       برؤيتــها خضــراء من سندس القصب

وفيها نخيل باســـقات  اذا الصــــــبا        تهب عليها اسقطت يانـــــع الرطــــب

وفيها من الاشــــجار ما جل وصفه        باوراقــها الورقـاء غنــــت من الطرب

بديعة حُسْنٍ زادهـــا الله بهجـــــــــة        وأمْنَ اهليـــها من الخــــوف والشغب

لقد اعجــــزت اوصافها كل معرب                  وكل الــذي املــــــــى وكل الذي كتب

ولكن قصــــارى مطنب القول انها                   تفوق بــــلاد الغـــرب طرا ولا عجب

طبعا هذه الصورة الرومنسية تعود الى ماضي مدينة طرابلس، طرابلس قبل ان يحتلها “التتار الخضر”، فكيف هي طرابلس الان؟

لنتحدث عن طرابلس الان، دعنا نستعير فقط بعض من انطباعات رحالة روسي معاصر يدعى ألكسندر سيمو، هذا الرحالة قدر له ان يجوب معظم أنحاء العالم بعد ان شاهد سقوط الشيوعية في بلده. قام سيمو بزيارة ليبيا عام 2002 م، وساسرد هنا مقاطع مما قاله “رفيقنا” الكسندر سيمو كما جاء على لسانه[ii]:

“أعترف، خفت من السفر إلى ليبيا، إذ أن تخيل الشيطان مرعب جدا. الحصول على تأشيرة كان صعبا جدا، كما إن اسم ليبيا الكامل الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الإشتراكية حرّك في داخلي ذكريات قديمة مخيفة، عشر سنوات بدون اشتراكية، وفجأة، هي في الجوار من جديد

أول شعور بعد العودة من الجمارك التونسية أنني أحسست وكأني في ساحة بناء، بل يراودني شعور بأنني لا أسير في الطريق الصحيح ولكن لا يمكن فعل شيء – الكل يسير و أنا أسير. أخاديد تحيط بالجوار، جبال من النفايات وبقايا مواد البناء، ومع ذلك لا يلاحظ هنا شغل أحد. نعم هي الاشتراكية في أبهى حللها !!

اجتزنا الحدود الليبية المخيفة. وها نحن نتجول في أول الطريق في هذا البلد غير المرئي. هنا يعمل الهاتف المحمول، ونحن نرسل رسائل قصيرة لكل من نستطيع. بعد عدة كيلومترات ينقطع الاتصال لوقت طويل. لليبيا شبكتها الهاتفية الخاصة، ولكن الاتصال من خلالها بالعالم الخارجي مقطوع … الناس تسير بسرعة وبوقاحة. لا احد يحترم قواعد المرور. عندما وصلنا إلى طرابلس أصبح كل شيء (عال العال). الإشارات الضوئية من المعتاد  أن لا تعمل هنا.

أقمنا في احد الفنادق، كل شيء في هذا الفندق شبيه جدا بالفنادق الخاصة بالأجانب في زمن الاتحاد السوفييتي، بدون أناقة عصرية. يوجد ماء ساخن وكل شيء مرتب. بالطبع لا يعمل كل شيء كما يجب، فمثلا الباب من الداخل لا يمكن فتحه بدون التمتع بأفكار هندسية، خزان المرحاض لا يمتلئ بالماء إلا إذا أدخلت يدك فيه. ولكن هذا أمر حياتي عادي. الحجرة متواضعة جدا، إلا أنها نظيفة ومرتبة. وظيفيا كل شيء في محله، في الغرفة توجد قطعة صابون وفي الأخرى توجد مناديل ورقية، ولكننا لسنا مهتمين، يمكن أن نطرق أبواب الجيران إذا احتجنا ! في الحجرة يوجد سرير وتلفزيون.

للحقيقة قناة واحدة حكومية تعمل، لا توجد إعلانات دعائية، الأخبار السياسية كثيرة جدا، في الغالب حول الحرب في فلسطين. نقل الأخبار يسير من موقع أن ليبيا هي مركز العالم، وهي نموذج يُقتدى. معمر القذافي يظهر على شاشة التلفزيون بقدر معتدل. في الوقت المتبقي من الزمن على الشاشة يسير جرار زراعي، ومضخة تستخرج النفط. برنامج “ساعة ريفية” بالضبط كما هو الحال عندنا، امرأة مسنة تشرح كيفية غرس نخلة. مذيع في ثياب أوروبية، لا ينظر مباشرة إلى آلة التصوير، ويحاول يائساً إخفاء انفعاله بحركات يديه، أو بالانشغال بتصليح تسريحة شعره. تشعر بأن الأطباء النفسيين لم يصلوا إلى هذه البلاد ولا حتى إلى التلفزيون. وهذا كله معروف جدا لنا بتلفزيون السبعينيات في الاتحاد السوفييتي

لما خرجنا للتنزه خلف جدار السرايا الحمراء، كنا ببساطة مصدومين بحجم الخراب. ثلث المنازل غارقة في الأنقاض، قمامة مخيفة، تعوّد الناس على إلقائها كيفما اتفق، و لا يأبه لرفعها أحد على الإطلاق. و يمكن التساؤل من قصفها !؟ حسب علمي منذ الحرب العالمية الثانية لا أحد حارب هنا. يبدو أن الأنقاض والقمامة جزء أساسي خاص بطريقة تطور الحضارة المحلية المشي صار مرعبا.”

هاتان صورتان لطرابلس، صورة مفعمة بالدفء لمدينة عصرية تضاهي مدن الغرب وتزيد عليها بهاء وعجب، وصورة لمدينة فقدت كسائها، فاصبحت مدينة من الانقاض والقمامة، وكانها خرجت لتوها من حرب، واصبح السير فيها مرعب. لقد اصبحت طرابلس عروس مرغت في الشقاء والكأبة ففقدت بهائها. اليس هذا تدمير ممنهج؟ وهل هذا مقتصر على طرابلس فقط؟.

والله من وراء القصد

احمد معيوف[iii]

——————————————————————————————————————————–

[I]  شعر احمد بن حسين بن محمد، من شعراء طرابلس /  تاريخ طرابلس الغرب تحقيق الشيخ الطاهر الزاوي

[II]  ترجم هذه المقالة السيد محمد الطاهر الحفيان، تجدها كاملة على الرابط  التالي

[III]  الشعراء الذين كتبو في بنغازي كتر، لكني اخترت السيد جبيب السنوسي والمغيب الدكتور عمرو النامي لانهما ليسا من بنغازي، لكنهم كلكل الليبين، كل ليبيا لهم سواء الا من اراد غير ذلك عن قصد.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا