الحرب الأهلية الليبية: إصطفاف وويلات متكررة - عين ليبيا

من إعداد: د. عيسى بغني

خلال السبعة سنوات الماضية كان الليبيون على درجة كبيرة من المكابرة والرفض عند توصيف الحروب القائمة بأنها حروب أهلية، لما تحمل هذه الكلمة من هبوط في المستوى الأخلاقي والقيمي للقوى المتقاتلة، ولكن علينا بعد السبعة العجاف أن نبحث عن جذور الشقاق ومكامن الداء ثم وسائل العلاج.                                                                               

ينعكس التاريخ المزعج للزعامات الليبية الحالية والسابقة بجلا على المشهد الليبي، ويعود ذلك إلى بساطة التكوين الإجتماعي الليبي الذي لم يتطور خلال قرون سابقة، فالزعامات كانت دائما قبلية نفعية لا تتجاوز رؤاها خيام النجع وغنائم العشيرة. وكأن التاريخ يعيد نفسه، فما نشاهده اليوم لا يعدو أن يكون إعادة لمسلسل دار قبل مئة عام، أي الفترة من سنة 1916 إلى 1922م في تلك الفترة خرج العثمانيون من ليبيا تبعا لإتفاقية مدوروس 30 في  أكتوبر 1918م  بعد أن قاموا بتولية الشيخ سليمان الباروني على الغرب الليبي، ولم تستطيع إيطاليا بسط سيطرتها على كامل الأراضي الليبية، وبذلك لم يدينوا للباروني بالولا ولا لإيطاليا، وأصبحت لكل مجموعة قرى زعيم ومقاتلين ومناطق نفوذ، وكلما دعت الحاجة يحدث إصطفاف ثم ينفك ليعود العداء من جديد، للأسف حتى الجمهورية الطرابلسية التي تعتبر من أقدم الجمهوريات في العالم الإسلامي لم يكن لها رئيس واحد بل لجنة تتألف من مجموعة زعامات.

كانت المناوشات بين القادة العامل الحسم في تدهور حركة الجهاد التي مات فيها الآلاف ولم تسطيع زحزحة المستعمر، فالمعارك بين السويحلي وعبدالنبي بالخير، وبين سيف النصر مع السنوسية وهولاء، وبين بن عسكر وتحالف فكينى والشنطة والمريض حروب كانت قاسية زهقت فيها ألاف الأرواح بلا مبرر سوى التطاحن على الزعامة. ليس هناك فرق بين معارك الوشكة والأبيض والسيح قبل مئة عام وحروب الكرامة بمدينة بنغازي والفجر بطرابلس والتبو وأولاد سليمان في فزان والتبو و  والزوية بالكفرة.

لم يكن هناك فرق في التدخل الخارجي، فلقد قاد معارك الجبل رجل عثماني يسمى عبدالله تامسكت وحارب تحث قيادته العديد من أبناء الجبل ضد أهلهم وجيراهم، وهناك المصري الشهير عبدالرحمن عزام  والعسكري محمد شادي الذي تم الإستعانة به من بعض الأطراف، إضافة إلى إرتباط السنوسية بمصر والإنجليز بل والصلح حتى مع الإيطاليين.

للأسف الكثير من القيادات التي نمجدها لم تكن إلا زعامات قبلية بل ومتواطئة، ومعظمهم كانوا موظفين يتقاضون مرتباتهم من الحكومة الإيطالية، ويرسلون أبنائهم للدراسة إلى إيطاليا على حسابها، أما المغرر بهم فيموتون في حروب أهلية دفاعا عن الزعامة، وهو الحال الآن عندما ينفذ العديد من السياسيين إجندات الدول الأخرى ويرسل ويدفع بشباب العامة إلى الحروب في حين أن أبناء المتنفذين يرسلون ألى أرقى الجامعات.

من الملاحظ أن المؤرخين الليبيين مثل الشيخ سليمان الباروني والشيخ طاهر الزاوي ومحمد فرحات الزاوي وهم شهود على تلك الفترة لم يتناولو هذا المشهد، ولقد شجب الشيخ الطاهر تلك الحروب وبرر عدم التعرض لها بأنه لم يحين الوقت لكشف ملابساتها، ولعله يرنوا إلى أن غض الطرف عنها قد ينسي المجتمع إصطفافها وويلات حروبها. بالمقابل هناك العديد من المصادر التي حجبت إبان الحكم الجماهيري أو التي صدرت بالخارج لتميط اللثام عن تلك الحقبة منها كتاب حروب الجبل والساحل للأستاد سعيد عمرو بغني، وكتاب خليفة بن عسكر لفتحي الليسير.

ولكن كيف تعاملت الدول الأخرى مع الحرب الأهلية؟ كما نعلم حدتث حروب أهلية كثيرة منها في ألمانيا سنة 1618م وسويسرا 1841، وأمريكا 1860م وإسبانيا عام 1935 م  والحرب اللبنانية عام 1975 والعراقية والليبية مؤخرا.

النمودج السويسري وضع ميثاق تحترمه كل مكونات المجتمع ثم دستور بني على ذلك، منه الأخذ بالتصنيف الوطني وليس الطائفي، ومنع الترويج للمذاهب ومنع خطاب الكراهية، ونشر التسامح  بين أفراد المجتمع، وهذا النهج متطور جدا عما حدث في الطائف لحل المشكلة الحرب اللبنانية عن طريق تكريس الطائفية.

في إسبانيا ثم إنتهاج سبيل آخر وهو التعريف بالحرب الأهلية ومشاكلها وحروبها والتحذير من العودة لها، فلقد ألف الكتاب الإسبان أكثر من ثلاثين ألف كتاب عن الحرب الأهلية، ومئات الأشرطة الوثائقية والمسلسلات والأفلام التي تتعرض لتلك الحقبة وأهوالها. وبذلك نشاء جيل جديد بثقافة تناهض كل ما يجر البلاد إلى الحرب الأهلية بالرغم من الدعوات الإنفصالية لبعض الجزر والمقاطعات الإسبانية.

خلاصة القول يحتاج الشعب الليبي  إلى مصالحة مع التاريخ القديم منه والحديث، لم يعد هناك مبرر لحجب تاريخ ليبيا قبل الإسلام، ولا مبرر لإخفاء مساوي الحروب والتقاتل الجهوي والقبلي على مر العهود، ولا أن نصنع من زعامات قبلية متخلفة أبطال يحدوا الجيل الجديد حدوهم، ولا أن نبجل العملاء بسبب إنتمائهم.  أن التثقيف والشفافية ينشئ جيل جديد مدني منفتح على العالم ومتفتح فكريا ينبذ التطرف والتقوقع القبلي والجهوي المقبت، ويرنوا إلى المستقبل الباهر بعيدا عن عُقد الرموز المزيفة، ومن سار على سنتهم إلى يومنا هذا.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا