الدكتاتور في نهاية دورته التاريخية - عين ليبيا

من إعداد: عبد الله الكبير

مأخوذا بالزهو بأناقة البزة العسكرية، ظهر حفتر وحيدا داخل غرفة يلقي كلمة قصيرة موجهة إلى قواته. امتزجت فيها مفردات الحرب وأدواتها مع اللغة الدينية والآيات القرآنية، المشهد في مجمله بدا وكأنه مسْتل من فلم وثائقي عن الزعامات العسكرية خلال حقبة الستينات في أفريقيا، أو من رواية ماريو بارغاس يوسا “حفلة التيس”، حيث يحرص  دكتاتور الدومينكان الجنراليسمو على فخامة بدله العسكرية قبل الظهور في أي اجتماع أو احتفال. فشلت مراهم التجميل في إخفاء التجاعيد وعلامات الإرهاق و الهالات السوداء تحت عينين متورمتين على وجه حفتر، تداركا لهذا الفشل أبعدت الكاميرتان عنه مسافة لابأس بها.

ليست هذه المرة الأولى التي يظهر فيها حفتر في كلمة مسجلة، لكنه لأول مرة بدا منكسرا يكابد الانهيار، لم يعتد الظهور بشكل شبه عفوي بين أنصاره يرتجل فيها كلمة تلهب الحماس، فعل ذلك مرة أو مرتين فقط، فهو لا يبدو واثقا من قدرته على الخطابة فضلا عن لحنه الواضح في اللغة الذي فشل في معالجته حتى وهو يلقي خطابا مسجلا يفترض أنه تدرب على إلقائه عدة مرات، ومن ثم يفقد أحد الشروط الثانوية للزعامة، فالمقدرة على الخطابة أمام الحشود على أهميتها ليست من الأساسيات، إذ عرف التاريخ عدة زعماء افتقدوا هذه الموهبة، لكنهم عوضوها بالبراعة في تنمية المواهب الأخرى.

الخطاب القصير كان في الواقع لجوء لحيلة قديمة طالما فزع إليها الدكتاتوريون إزاء الفشل في مشروعهم، باستبدال اللغة الزاهية المنتصرة بالواقع المحطم بالهزيمة والخراب، كلمات ساحرة بلسان واثق عن المجد و النصر الذي تأخر قليلا لكنه آت لا محالة، وما ترونه من بقايا حطام وأشلاء متناثرة وما يروجه العدو عن هزائمنا إن هو إلا افتراء و بهتان يريدون به تحطيم معنوياتنا، فلتصبروا قليلا كي تحتفلوا بالنصر القريب. ثم تنطلق على الفور الحفلات السحرية على الشاشات، يقفز السحرة إلى شاشات التلفزيون لتحليل الخطاب وكشف الدرر المخبأة بين حروفه، يلقون حبالهم مع تلاوة التعاويذ وإطلاق الأبخرة لتبدأ الثعابين في الرقص ساحرة أعين المشاهدين، فتتحول وقفة الزعيم إلى عمل خارق لا يأتيه إلا أولي العزم، وثباته رغم شدة العواصف و المؤامرات الدولية معجزة تثبت صلابته. و يظهر الساحر الأكبر في الختام معلنا ” كلمة المشير بلسم شافي لكل جروح الليبيين”. ما أكثر الجراح التي خلفتها الحروب المجانية الخاسرة، ما أشد وقع الهزائم، فليخرج علينا المشير بكلمة شافية عقب كل جرح و خلف كل هزيمة. لما يتأخر علينا بالبلسم ولا يسعفنا به كلما كنّا في حاجة له؟.

كلمات الزعماء تشفي الجراح وتخفف الآلام و تدفع المصائب، لقد أنجبت النساء الصينيات بدون آلام المخاض بفضل قرأة بضع سطور من الكتاب الأحمر للزعيم ماو تسي تونغ، و نام الملايين مطمئنين في فردوسهم الأرضي تحت وسادتهم السلطة والثروة والسلاح بعد أن تلا عليهم قارئ النشرة في ختام أخبار منتصف الليل قليلا من الكتاب الأخضر، وتقدم الشيوعيون الأشد إخلاصا بكل رضا لمواجهة الرصاص لأن ستالين دعا إلى التضحية من أجل إنقاذ الحزب، فقد مضى وقت طويل من دون مؤامرات، ولا يمكن للحزب الشيوعي الخالد أن يستمر متماسكا من دونها.

لا يمكن للدكتاتور أن يعيش من دون وجود العدو، لابد من صناعته ليبقى التحدي قائما و الشعب متأهبا و حالة الطوارئ أبدية، وهكذا يقسم الزعيم البلاد إلى شطرين،الشعب و أعداء الشعب، المؤيدون هم الأخيار الذين يستحقون التضحية أما الخصوم فهم الأشرار المتوحشون الذين لابد من سحقهم وتخليص العالم من شرورهم، وقد تطول قائمة الأعداء لتشمل الصهيونية و الرجعية و البرجوازية و الرأسمالية و الخونة و العملاء، إلى آخر المصطلحات الفضفاضة التي لا حدود ولا معالم ولا معايير واضحة لها.تفترس لغة المستبد الكلمات فتزيف دلالاتها و تقلب معانيها، تضخيم أي أعمال لجنوده و أنصاره مهما كانت تفاهتها وشحنها بالدعاية مقابل الاستخفاف بكل ما يصنعه العدو والتقليل من شأنه مهما بلغت ضخامته، فالهزيمة المدوية في موقع استراتيجي تنقلب في لغة المستبد انسحابا فرضته مخططات المعركة، و كل السلوكيات الشائنة والممارسات الوحشية التي ترتكبها قواته تنسب للعدو.

لا يملك الزعيم المستبد سلاحا أمضى من العنف لتكريس سلطته إذا أصابها الوهن أو واجهت تحديا يهدد وجودها، ولا يقتصر العنف على الأعداء بل يشمل حتى الأنصار إذا تطلب الأمر، فالسيطرة تحتم تدمير أي سلطة تبرز في مناطق نفوذه ويمكن أن تشكل تهديدا، و بالتالي تسقط أي حصانة فلا يسلم من البطش أي شخص أو كيان مهما بلغ نفوذه، وهنا يلج الزعيم مرحلة العنف العاري كما ترى حنة أرندت، وهي المرحلة التي تبدأ فيها السلطة بالسقوط.

لم يعد أمام حفتر من خيار سوى المضي في طريق العنف والدم لتأجيل لحظة السقوط فقط، فالعنف يعجز عن الاحتفاظ بشئ كما يرى نابليون بونابرت، بينما سيعجل أي تراجع بلحظة السقوط النهائي، إذ سيمنح الفرصة للمنتقمين لينتفضوا ثأرا لكرامتهم المهدورة، لا أحد يقترب من الثور حين يكون في أوج تألقه و عنفوانه غير المصارع الشجاع، ولكن رماحا عديدة تخترق قلبه ما إن يبدأ في الترنح و تتهاوى أول قوائمه.

اختلف العصر و عصفت بالعالم تغيرات جوهرية خلال العقود الأخيرة، لعل أبرزها و أكثرها تأثيرا هو سقوط جدار برلين و تحلل الدولة الشمولية الكبرى الراعية لكل الأنظمة الشمولية في العالم الثالث، غير أن حفتر لم تدركه هذه التغيرات ولم ير أو لم يرغب في رؤية السقوط الكبير للشمولية والدكتاتورية، كل أمجاد الزعامة و ملذات السلطة كما عرفها في  ليبيا من خلال القذافي وغيره من زعماء الدول المحكومة بالأنظمة الشمولية صمدت في مخيلته كحلم قابل للتنفيذ ولم تنل منها عواصف التغيير، و تقدم بجسارة مستغلا ظروف الاضطراب والفوضى، مع إسناد من قوى إقليمية ودولية مناهضة للتغيير ليشيد حلمه، ولكن عاصفة التغيير عنيفة لا يسع الأكاذيب القديمة الصمود أمامها، إنها تدشن مرحلة تاريخية جديدة تتقدم فيها الشعوب لتهدم الأوثان و تشحن الزعماء في طرود حديدية و ترسلها لأقبية المتاحف.

بينما يدخل زمن الزعامات المتألهة مرحلة الأفول، عصر يشارف على نهايته وتشهد البشرية لحظات احتضاره، يتقدم حفتر بمستوى ثقافي ضحل و قدرات قيادية محدودة و فشل عسكري متواصل، يطارد أوهامه في تأسيس مملكته بنفس الأدوات والآليات القديمة، مثل شبح تائه يبحث عن مغارة داخل مدينة تتألق بالأبراج وأضواء النيون، وحتى يدرك الشبح و أتباعه أن الدورة التاريخية للدكتاتور شارفت على نهايتها، وأنه ليس ثمة مغارات مظلمة في عصر اخترقت فيه أشعة الحرية كافة أركانه، سوف يسقط المزيد من الضحايا و تتسع رقعة الخراب، إذ لكي نحرر حقائق المستقبل من أكاذيب الماضي ثمة ثمن باهظ لا مندوحة من سداده للتاريخ.

عبدالله الكبير



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا