الدولة الليبية بين مطرقة السلاح وسندان الفساد - عين ليبيا

من إعداد: د. عيسى بغني

عند التفكير في الوضع الليبي يكون اللبيب فيه مشدوهاً، والعاقل لا يكاد يصدق؛ آلاف الشباب يموتون بلا هدف يُساقون إلى ساحات الوغى تحث ثمالة ونشوة زائفة، أمهات يودعن أبنائهن للقتال على بعد ألف كيلومتر ليلاقوا حتفهم، ويستقبلن الخبر بصمت وغصة، أو لا يسمعن عن أبنائهن شيئا حتى تضع الحرب أوزارها، ويالها من نكبة حالكة السواد، ذلك الوضع في إجدابيا والأبيار وتوكره والمرج.

في الغرب الليبي الوضع مشابه، يخرج بوصاع من تيجي وعون من الزنتان وينضم إليهم من الأصابعة متجهين إلى العربان ثم مطار طرابلس العالمي حيث ينضمون إلى إخوتهم في الحرب والسلاح من إجدابيا والأبيار والمرج وطبرق.

بالمقابل يقود خليفة من نالوت (سكمل) على ظهره دبابة تي 72 للمرور على فرج من غريان المدجج بعربة بي إم بي ويلتحق بهم جمال بسيارة مسلحة بمدفع رشاش من الزاوية ليتجهان إلى الناحية الأخرى للجبهة مع إخوانهم من مصراته والخمس وزليطن.

في مدنهم المجاورة وفي الطريق (وهم بسلاحهم) لا أحد يتعدى على الآخر، وما أن يصلوا إلى الجبهات حتى يبدأ وطيس الحرب، ونقل القتلى والجرحى.

هذا المشهد يستمر باستمرار الدفق الإعلامي والتزويد بآلات الحرب والدخيرة، وبعد بضعة أيام ترسل النعوش إلى ذوي ذلكم الشباب المتطوع فرادى ويترحم عليهم الجميع ويتأسف لفقد الأنفس، ولا نصر عسكري مؤزر في العيان، ولا اتفاق لحقن الدماء على المدى المنظور.

هؤلاء الشباب الذين يتقاتلون ولا يعرف بعضهم بعض من أجل ساسة يعرفون بعضهم جيداً، يمولون بالمال والسلاح من مصرف مركزي واحد في مشهد درامي مثير.

تقوم حكومة الثني برصد ثلاثة أرباع ميزانية الشرق الليبي للدفاع، أي ما يقارب 30 مليار دولار (من المصرف المركزي) يتم بها شراء مدرعات النمر الإماراتية والذخائر المصرية وأخرى من أوكرانيا وتتحرك إلى الجبهة ليتم تدميرها بصواريخ جو أرض تركية أو دبابات تي 72 الروسية، ناهيك عن فقد الطائرات الليبية القديمة منها إثنتان ميراج وإثنتان سوخوى وإثنتان ميج 23.

نهاية القصة أن مؤسسة الأعمال العسكرية للكرامة تشتري كل الركام من الآليات المُدمرة وتبيعها لتركيا من جديد لتقبض ثمن تمويل الحرب، وتركيا تصنع من (الرابش) معدات عسكرية للدفاع عن طرابلس بفاتورة من المصرف المركزي.

وعند كل مرحلة يطالب الساسة والمثقفين المزورين والدهماء بدعم الجبهات لاستمرار الحرب، نعم ليس الدفاع عن النفس وعن الدولة المدنية كالعدوان لتنصيب حكم عسكري آخر ولكن طريقة إدارة الحرب غير حكيمة، فهي بلا حسم ولا رؤية وما يمكن أن يفقد في معركة حاسمة لأيام معدودة أقل بكثير من الموت بالتقسيط الذي نشاهده خلال خمسة أشهر من العدوان، ناهيك عن تخبط الرئاسي بسبب عدم وجود وزير للدفاع وأداء الخارجية المخجل.

فماذا لو توقف المصرف المركزي عن دعم حكومة الثني، ستنهار في شهرين هي والكرامة ولن يعود العواقير إلى حفتر بل سينتفضون عليه، وليس هناك أمل للانفصال في وجود حفتر.

في الجانب الآخر يستمر مسلسل الفساد، فمثلا مصلحة الأحوال المدنية تقوم بالمصادقة على تعيين 20 ألف موظف من المنطقة الشرقية وتدخل في الكثير من الفساد المالي، ورغم هذا الجيش تعجز على توفير منظومة إحصائية محترمة، مما اضطر المصرف المركزي إلى عدم الاعتماد عليها والاعتماد على برنامج الرقم الوطني، ومن آخر صيحاتها المدوية إعادة إحياء قانون القذافي رقم 24 لسنة 1369 ور (2001م) بمنع استعمال غير العربية في جميع المعاملات ومنها المادة الثالثة التي تقول “يمنع استخدام الأسماء غير العربية…” بكتاب من الإدارة القانونية بناء على كتاب من مجمع اللغة العربية (مع خطأ فادح في عنوان القرار)، وهو قرار خارج عن سياق الأحداث وخارج عن سياق الزمن، ولا يرقى إلى درجة قرار وتشوبه الكثير من التجاوزات القانونية، أي لا يعدو إلا أن يكون تأجيجا للصراع وتعريض السلم الاجتماعي للخطر، من خلال فتح ثغرات عرقية وأصولية مؤدلجة، ونحن ننشد المواطنة والدولة المدنية المتنوعة في الثقافة، فلا ضير أن يسمي العبيدى أمراجع والتباوي تيدا والتارقي ون تي تي والعجيلى أبوعجيلة والزليطني البهلول والجبالي مازيغ والإجدابي حمد وحتى اليهودي الليبي ديفد ومن الأهالي عبدالسلام ولا ضير أن يكون هناك أبو قتادة وأبوسندس وأبودجانة.

إن المجتمع الليبي متنوع عرقيا وثقافيا فهناك دعاة الدولة الوطنية والقوميون العرب والأصوليون الإسلاميون وهناك الأهالي واليهود الليبيون والأمازيغ والتبو والأتراك والإغريق، ولكل منهم عاداته وثقافته وأسمائه، وهذه الحقوق تضمنها القوانين واللوائح الوطنية والدولية مثل: الإعلان الدستوري الليبي الصادر في 2011م، وتعديلاته وقانون المؤتمر الوطني العام رقم 18 لسنة 2013م، بشان حقوق المكونات الثقافية واللغوية، – إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي لعام 2001م وينص على تأمين الدولة للحقوق الثقافية لمواطنيها، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، 13، 14 ، 16 وخاصة المادة 13.

نهش الدولة واضح العيان في وجود مليون ونصف موظف عملهم الرئيسى من الثامنة إلى الثانية (لمن هو ملتزم) تصفح الفيسبوك والدردشة وقتل الوقت بأكواب الشاي والقهوة، ثم الخروج في مظاهرات من أجل زيادة الأجور، ولم يفكر أحداً منهم أن معظم المؤسسات الناجحة تمنع تشغيل منظومات التواصل الاجتماعي في المكاتب، وأن معدلات الأداء هي الفيصل بين الموظف وصاحب العمل.

لا تستطيع أن تستني حتى مصلحة الضمان الاجتماعي التي هي مؤسسة غير حكومية محتكرة لاشتراكات الموظفين بفعل القانون، لها من المكاتب وتراكم الموظفين ما يعجز المرء عن عده، بالمقابل تحتاج إلى سنة ونصف حتى تقوم بضم خدمة أو الحصول أو توقيف اشتراكات أو الانتقال إلى التقاعد، وتحتاج إلى عشرات الزيارات لتصريف معاملة، وإن وقعت فتحتاج إلى تصديق من اللجان الفرعية والإدارة المركزية وهو شأن يطول أجله.

الخوف من انفراط عقد الدولة عند أي تغيير للمجلس الرئاسي والحكومة خوف غير مبرر فليس هناك قاع أسفل مما نحن فيه، وتغيير الرئاسي والحكومة قد يوجد طاقات بديلة لها رؤية وحنكة وحكمة في إدارة الأزمات، وهو ظاهر في وزارة الداخلية، وهو المطلوب، ولن يخسر الشعب الليبي إلا منظومات الفساد والمتنطعين السياسيين، فالتغيير يحتاج إلى همم عالية وأيدي ثابتة لا ترتعش تقوم بقرارات صعبة للخروج من الأزمات، وذلك ليس ببعيد.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا