السفراء والمبعوثون في الإسلام - عين ليبيا

من إعداد: د. محمود المعلول

كان المسلمون هم الأسبق في نشر قواعد الدبلوماسية الصحيحة التي كان أساسها مستمداً من قواعد الدين الإسلامي الحنيف، كما إن المسلمين قد قاموا بالتواصل مع الشعوب والإمبراطوريات الكبرى لدعوتهم إلى الإسلام ولإنقاذهم من الظلمات إلى النور، وتحقيقاً لعالمية الإسلام، وعندما جاءوا إلى هذه الشعوب لم يؤمنوا بنظرية تفوق الأجناس التي آمن بها الأوروبيون فتجدهم يتزوجون من نساء تلك البلاد، ويتاجرون معهم، وكانوا يتفوقون عليهم بسلوكهم الحضاري ومعاملتهم الراقية، وليس بجنسهم أو أصلهم، ولذلك تجد مختلف الشعوب في آسيا وأفريقيا وأوروبا قد دخلت في الإسلام بسبب الرقي الفكري والحضاري للمسلمين، لأنهم كانوا يمثلون عقيدة جديدة، وقد طبقت هذه العقيدة في سلوكهم ومعاملاتهم وتجارتهم مع غيرهم.

شهدت الدبلوماسية الإسلامية أعظم رقي لها في الدولة الإسلامية الأولى دولة العدل والمساواة والأمن والسلام، فانظر أخي القارئ الكريم إلى هذه القصة التي تبين عظمة الدبلوماسية الإسلامية، وما كان عليه المسلمون الأولون من صدق وأمانة وإخلاص فقد روى بعض المؤرخين إن الخليفة عمر بن الخطاب (13 ـ 23هـ / 634 ـ 644م) بعث إلى ملك الروم * بريداً (سفيراً) فاشترت امرأته أم كلثوم بنت الإمام علي كرم الله وجهه ( 6 ـ 50هـ / 628 ـ 670 م) طيباً (روائح) بدينار فوضعته في قارورتين، وأهدته إلى امرأة ملك الروم ( كعادة نساء الرؤساء والأمراء اليوم ) فرجع البريد (أي السفير) بملء القارورتين من الجواهر فدخل عليها عمر وقد وضعته في حجرها فقال: من أين لك هذا ؟ فأخبرته فقبض عليه منها، وقال: هذا للمسلمين، فقالت: كيف هو وهو عوض من هديتي؟ فقال عمر بيني وبينك أبوك (الإمام علي) فقال علي: لك منه بقيمة دينارك، والباقي للمسلمين لأن بريد المسلمين (أي رسولهم وسفيرهم) حمله (1)، فانظر أخي الكريم إلى هذا العدل إن أمة بهذا العدل، وفيها عمر وعلي أليست جديرة بأن تتنصر على أعدائها لأنها متفوقة عليهم حضارياً وفكرياً ولديها من القيم الروحية أكثر مما عندهم.

وفي هذا المقال نتناول تواصل أمتنا العظيمة مع غيرها من الأمم ذات الحضارة ونتناول سيرة بعضاً من أولئك السفراء العظام ، الذين أرسلوا من قبل أمتنا عبر مختلف العصور إلى الأباطرة والحكام والأمراء والقادة وما جرى لهم من مناظرات ومحاورات أثبتوا فيها أنهم كانوا بحق صورة ناصعة البياض لأمة عظيمة أبت الضيم والظلم، ونشرت العدل والخير والسلام والمحبة بين الشعوب ، وأن أولئك السفراء كانوا خير ممثل لها ولدينها ولحضارتها العظيمة.

كانوا ليوثاً لا يرام حماهم ………… في كل ملحمة وكل هياج

فانظر إلى آثارهم تلقى لهم …………… علماً بكل ثنية وفجاج

إن السفراء في الأمة الإسلامية كثيرون نحاول أن نذكر منهم:

  1. هبيرة بن المشمرج إلى إمبراطور الصين. كان مفوهاً.
  2. عبادة بن الصامت إلى المقوقس ملك القبط. كان يعد بألف رجل.
  3. ربعي بن عامر إلى رستم القائد الفارسي. عزة الإيمان
  4. حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك القبط . السفير الحكيم
  5. دحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل إمبراطور الروم. كان على صورة جبريل عليه السلام.
  6. عامر بن شراحيل الشعبي إلى ملك الروم. كان عمر في زمانه.
  7. يحيى بن الحكم الغزال إلى ملك الروم. الشاعر الفارس الأديب.
  8. أبو بكر الباقلاني إلى إمبراطور الروم باسيل الثاني. فريد عصره في مختلف العلوم.
  9. ابن بطوطة أرسل إلى إمبراطور الصين ـ الرحالة الأمين.
  10. ابن واصل الحموي أرسل إلى ملك صقلية ـ كان من أذكياء العالم.
  11. أبو بكر ابن العربي أرسل إلى الخليفة في بغداد ـ القاضي الفقية.
  12. حسداي بن شفروط ـ أرسل في عدة مهام من يهود الأندلس المستعربين.
  13. أحمد بن فضلان ـ أرسل إلى ملك البلغار ـ السفير الرحالة.
  14. حسونة الدغيس سفير يوسف باشا بلندن. كان أعجوبة في الفهم والثقافة والمدنية.

إن السفارات هي نوع من أنواع التواصل الحضاري بين الشعوب وليست مجرد وفد ورسالة بل هي أداة مهمة لبيان الحضارة والدين والعادات والتقاليد، ولذلك حرص الملوك والسلاطين والقادة على استقبال السفراء في أبهة من الفخامة والزينة، والسبب هو ليقع في قلب السفير الخوف والرهبة من قوة الدولة وعظمتها فيسهل التفاوض معه، وقد فعل ذلك ملك النورمان مع السفير يحيى الغزال ، وملك صقلية مع القاضي ابن واصل الحموي وغيرهم.

كما أن السفراء كثيراً ما كانوا ينقلون معهم هدايا قيمة من أجود ممن صنعته بلادهم أو من الأشياء النادرة التي لا توجد بالبلد المبعوثين إليه ، وقد نقل ابن واصل الحموي معه زرافة كهدية إلى ملك صقلية ، وكالأقمشة والعطور والثياب وغيرها.

وكثيراً ما كانت تجري مساجلات ومناظرات (دينية ـ علمية ـ أدبية) بين السفراء المبعوثين وبين من يجدونهم بحضرة الملوك سواء علماء أو رجال دين أو غيرهم من حاشية الملك ، وقد حدث ذلك لكل من عامر الشعبي والقاضي الباقلاني وابن واصل الحموي والغزال الذي ناظر علمائهم وتغلب على فرسانهم وناقش زوجة الإمبراطور (تيودورا) التي أعجبت أشد الإعجاب.

إن سيرة أولئك السفراء تبين القوة والعظمة والعزة للدولة الإسلامية ، وتفوقها الحضاري على بقية الأمم فحتى عند قيام الحرب لم ينس المسلمون التقاليد والآداب الدبلوماسية التي عرفتها الشعوب فقد كان هارون الرشيد في حالة حرب مع نقفور إمبراطور الروم، انتهت بانتصار المسلمين فأرسل إمبراطور الروم إلى الرشيد يرجوه رد أسيرة كان قد خطبها لابنه ولكنها وقعت في الأسر، فاستجاب الرشيد وأرسلها في الزينة والطيب ، ومعها أنواع من الهدايا والتحف بعد أن تعهد نقفور بوقف الحرب (2).

إن السفراء في الحضارة الإسلامية الذين أوفدوا من قبل الدولة الإسلامية كثيرون فمنهم من ذكرناه آنفاً ، ومنهم من لم تتوفر المصادر والمراجع للبحث عن سفارته فهناك سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد عدهم العالم ابن ابي حديدة (721 ـ 783 هـ / 1321 ـ 1381 م) بحوالي (47) سفيراً ومبعوثاً (3)، ثم جاء بعدهم سفراء الدول الإسلامية المتعاقبة فهذا السفير إبراهيم بن يعقوب الطرطوشي يرسله الحكم الثاني المستنصر في عدة سفارات منها سفارة إلى البابا في روما يوحنا الثاني عشر سنة 350 هـ / 961 م ، وسفارتين إلى الإمبراطور أتوا الكبير(912 ـ 973 م) الأول مؤسس الإمبراطورية الرومانية المقدسة سنة 354 هـ / 965 م.

وكان الطرطوشي عالماً وطبيباً وجغرافياً وتاجراً زار وسط أوروبا وشمالها وشرقها ما يعرف اليوم ب (ألمانيا ـ بولندا – تشيكا ـ سلوفاكيا ـ أوكرانيا ـ بلغاريا ـ هولندا)، وتحدث بصورة وافية عن الحالة السياسية والاقتصادية لهؤلاء القوم الذين زارهم وعاداتهم وتقاليدهم، وذكر إن الإسلام قد وصل إليهم في وقت مبكر حوالي القرن العاشر الميلادي، كما رأى نقوداً إسلامية هناك.

وهذا السفير والرحالة سلام الترجمان الذي يذكر المؤرخ ابن خرداذبة (205 ـ 300 هـ / 820 ـ 912م) بأنه كان يتكلم بثلاثين لساناً ـ لغة ـ أرسله الخليفة الواثق بالله العباسي (227 ـ 232هـ / 842 ـ 847م) سنة 227 هـ / 842م في سفارة إلى بلاد أرمينية والخزر، وكان من ضمن أهداف تلك السفارة زيارة سد ذي القرنين فهي سفارة سياسية علمية (4).

وهذا السفير نصر بن الأزهر يرسله الخليفة المتوكل العباسي (232 ـ 247 هـ / 861 ـ 947 م) سفيراً إلى الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث (842 ـ 867 م) لتبادل وفداء الأسرى المسلمين سنة 241 هـ / 855 م ، وقد سمحت له الدولة البيزنطية بزيارة معسكراتهم ، وتفقد أحوالهم حيث نجح في مهمته أكبر نجاح ، وقام بفداء عدد كبير منهم (5).

وهذا السفير أبو محمد عبد الله بن عمرو الفياض سفير سيف الدولة الحمداني يصفه المؤرخ الثعالبي فيقول : ” كاتب سيف الدولة ونديمه معروف ببعد المدى في مضمار الأدب وحلبة الكتابة ، أخذ بطرفي النظم والنثر ، وكان سيف الدولة لا يؤثر عليه في السفارة إلى الحضرة أحداً لحسن عبارته وقوة بيانه ، ونفاذه في استغراق الأغراض ، وتحصيل المراد ” (6).

لقد كان المسلمون يختارون في سفرائهم من بين أفضل الشخصيات ذات المنزلة الرفيعة في المجتمع، والمشهورة بالذكاء والفطنة والبلاغة ورجاحة العقل وسرعة البديهة والحصافة في الكلام مما يجعلهم أهلاً لهذه المهمة الصعبة فالسفير حاطب بن أبي بلتعة أعجب به المقوقس بعد أن تكلم بحضرته ورد على أسئلته حيث قال له: أنت حكيم أرسل من عند حكيم، والسفير هبيرة بن المشمرج يذكر عنه المؤرخون أنه كان مفوهاً، والباقلاني وابن واصل الحموي وغيرهم ممن سيرد ذكرهم كانوا من الأذكياء.

وكان السفير في ذلك الوقت يمثل الخليفة (رئيس الدولة) فيتكلم باسمه ويفاوض ويبرم العقود والمعاهدات نيابة عنه، كما كان هناك ديوان خاص بالمراسلات في الدولة الإسلامية عرف بديوان الرسائل يختص بالمكاتبات والرسائل مع الملوك والأمراء، بالإضافة إلى وجود ختم للرسائل المرسلة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد منحت الشريعة الإسلامية قواعد للسفراء فحرصت على توفير السلامة والأمن لهم ، وظهر في كتابات الفقهاء ما يعرف بعهد الأمان، وهو حصانة كانت تمنح للسفير حتى يؤدي مهمته، وشملت حتى مرافقيه وخدمه، فلا يتعرض لهم أحد بسوء، وكان السفير عندما يدخل البلاد الإسلامية لا يتعرض لأي مضايقة بل يدخل إلى الدولة المسلمة حتى في حالة مروره بها متوجهاً إلى دولة أخرى.

وكانت الدولة الإسلامية تنزل السفراء في بيوت خاصة بهم ، وتعهد بحراستهم وخدمتهم، وكانت تقام مراسم استقبال لهم فيكون الخليفة جالساً في قصره وحوله رجال دولته ووزرائه أو قادة جيشه أو أبنائه فيدخل عليه السفير، ويؤدي رسالته.

وإني لمتأكد وأنا أطالع سير هؤلاء الرجال العظام أنهم لو كانوا عند أمة من أمم الغرب لألفوا عنهم مئات الكتب والقصص ولطلبوا من وزارات التعليم أو الخارجية عندهم أن تدرس قصصهم لأبنائهم.

ثبت بالمصادر والمراجع:

* عاصر خلافة عمر بن الخطاب أربعة أباطرة وهم :

  1. هرقل ( 610 ـ 641 م )
  2. هرقل الثاني ( 641 ـ 641 م )
  3. هرقلوناس ( 641 ـ 641 م )
  4. قسطنطين الثاني ( 641 ـ 668 م )

( 1 ) ابن حمدون، التذكرة الحمدونية ، الناشر دار صادر، بيروت. لبنان، ط1، 1417هـ، ج 1، ص 147، وأيضاً وردت هذه الرواية في كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، وربيع الأبرار للزمخشري .

( 2 ) الطبري، تاريخ الطبري، الناشر دار التراث، بيروت. لبنان، ط 2، 1387هـ، ج 8، ص 321.

( 3 ) ابن أبي حديدة الأنصاري، المصباح المضي في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي، تحقيق محمد عظيم الدين، الناشر دار عالم الكتب، بيروت. لبنان، (د ـ ت).

( 4 ) ابن خرداذبة، المسالك والممالك، دار صادر، أفست ليدن، بيروت. لبنان 1889م، ج1، ص 163 ، وكذلك ابن الجوزي المنتظم، مصدر سابق، ج1، ص 295.

( 5 ) ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، تحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا، الناشر دار الكتب العلمية، بيروت. لبنان، ط 1 1412 هـ / 1992 م ، ج11 ، ص 284.

( 6 ) الثعالبي، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، تحقيق مفيد محمد قمحية، الناشر دار الكتب العلمية، بيروت. لبنان، ط1، 1403هـ / 1983م، ج1، ص 130.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا