السياج الدوغمائي - عين ليبيا

من إعداد: د. أحمد معيوف

الدوغمائية، كلمة يونانية تعني الانحياز المطلق لفكرة دون النظر أو التفكير فيها، بصورة أكثر وضوح، تعني الجمود والانغلاق الفكري المتزمت، والإيمان المطلق بامتلاك الحقيقة، وإلغاء تفكير كل مخالف.

قاموس كامبريدج يعرف الدوغمائية (Dogma) بأنها عقيدة أو مجموعة عقائد (set of beliefs) يقبلها الإنسان بدون أدنى شك فيها (without any doubts).

وقد يعني أيضا “تعاليم” كما ورد استخدامه في اللاهوت الكاتوليكي، وأرتبط بالإلهام الذي زعمته الكنيسة لنفسها، ويعني “المبدأ الذي ينسب إليه الصحة المطلقة”، والذي أصدرت بموجبه فكرة عصمة البابا (Papal infallibility) عام 1870م في زمن البابا بيوس التاسع، باعتبار البابا ملهم من عند الله وبالتالي لا يجوز أن يخطي.

وعبر قبل ذلك الفنان الإيطالي كارلو ساراسيني على هذا المفهوم، قبل أن يصدر عن الكنيسة، في لوحته التي رسم فيها الروح القدس يحل على جسد غريغوريس الأول.

وقد استخدم هذا المصطلح حديثا في السياسة وفي علم الاجتماع لوصف المذاهب الفكرية المتعصبة، والتي تجافي العقل في تصوراتها، وتعتقد في قدسية هذه التصورات، وتعتبرها حقائق مطلقة، بل تتجاوز الأمر وتنسب الانحراف لكل من يخرج عن قناعاتها أو يرفضها.

أول من استخدم عبارة “السياج الدوغمائي”، على الأقل في نصها العربي، كان المفكر الجزائري محمد اركون في كتابه “من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي” والذي تناول فيه إشكالية تفسير معنى “كلالة” في الآية 176 من سورة النساء، واستنتج من خلاله أن المصدر الأساسي للفقه ليس القرآن وإنما التفسير حسب ما يرى.

إذا، السياج الدوغمائي لا يرتبط شرطا بالدين، فالولاء المطلق والتعصب الأعمى والانغلاق الفكري والثقافي، بل وحتى النفسي سمة بشرية لا يختلف فيها المؤمن عن الملحد، والمثقف عن محدود الثقافة، والمتعلم عن الأمي، والتاريخ شاهد على هذه السمة الإنسانية.

ومن تجربتي الشخصية، كونت “سياجي الدوغمائي” حول تعلم اللغة، فقد تسنى لي أن اعمل وأعيش في خمس دول، وأتيحت لي الفرصة أن أتعلم اربع لغات بالإضافة إلى الإنجليزية، لكن لأني أقنعت نفسي بأن عقلي غير مؤهل لتعلم اللغات الأجنبية، النتيجة أني فوت عن نفسي فرص ثمينه لزيادة مكاسبي وإتقان لغات متعددة، لقد أصبحت سجين قناعة خاطئة، اكتشفتها بعد أن ضيعت عن نفسي تلك الفرص الذهبية.

ما دفعني لهذا المقال هو اللقاء الذي أجراه الإعلامي افشان رتانسي (Afshin Rattansi) على قناة RT في برنامجه “going underground” مع المتحدث باسم النظام الليبي أثناء الثورة السيد موسى إبراهيم القذافي في عام 2011.

يقول موسى إبراهيم في هذا الحوار أن سبب تدخل الناتو في ليبيا هو بسبب مشروع القذافي الذي كان يسعى فيه إلى أفريقيا موحدة ومستقلة سياسيا وعسكريا عن هيمنة الغرب الإمبريالي، وكان يسعى إلى توحيد القارة، وخلق مصرف مركزي أفريقي وعملة أفريقيا ذهبية تحرر أفريقيا من سلطة الدولار.

كما قال إن اتهام النظام الليبي الذي استغله الغرب لضربها إما مختلق أو مبالغا فيه.

يقول موسى إبراهيم، إن القذافي لم يكن حالما بخصوص مشروعه الأفريقي، بل كان جادا وعمل باجتهاد على هذا المشروع، لهذا ثم محاربته.

وهنا لا أدري ماذا يعني أن يكون جادا في مشروع كهذا.

فشعوب القارة الأفريقية يتقاذفها الجهل والفقر، ويسود أنظمتها الاستبداد، وفي ظل ضعف مؤسساتها بسبب استبداد أنظمتها يتمتع بثرواتها ويسيطر عليها الاستثمار الأجنبي.

فطبيعة الأنظمة الأفريقية بما فيها ليبيا لا تسمح  بمجرد الحلم بهكذا مشروع، ناهيك على أن تحوله لمشروع تعمل على تحقيقه.

والحال في ليبيا،، كما أشرت، لا يختلف، وهنا أنقل شهادة رحالة روسي معاصر يدعى الكسندر سيمو، قدر له أن يجوب معظم بلاد العالم، وتسنى له زيارة ليبيا في عام 2002.

جاء على لسان “الرفيق” سيمو: أعترف، خفت من السفر إلى ليبيا، إذ أن تخيل الشيطان مرعب جدا، الحصول على تأشيرة كان صعبا جدا، كما إن اسم ليبيا الكامل الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية حرّك في داخلي ذكريات قديمة مخيفة، عشر سنوات بدون اشتراكية، وفجأة، هي في الجوار من جديد، أول شعور بعد العودة من الجمارك التونسية أنني أحسست وكأني في ساحة بناء، بل يراودني شعور بأنني لا أسير في الطريق الصحيح ولكن لا يمكن فعل شيء – الكل يسير و أنا أسير،، أخاديد تحيط بالجوار، جبال من النفايات وبقايا مواد البناء، ومع ذلك لا يلاحظ هنا شغل أحد، نعم هي الاشتراكية في أبهى حللها!!،، اجتزنا الحدود الليبية المخيفة، وها نحن نتجول في أول الطريق في هذا البلد غير المرئي، هنا يعمل الهاتف المحمول، بعد عدة كيلومترات ينقطع الاتصال لوقت طويل، لليبيا شبكتها الهاتفية الخاصة، ولكن الاتصال من خلالها بالعالم الخارجي مقطوع،،، لا تعمل إلا قناة حكومية واحدة، الأخبار السياسية كثيرة جدا، نقل الأخبار يسير من موقع أن ليبيا هي مركز العالم، وهي نموذج يُقتدى، معمر القذافي يظهر على شاشة التلفزيون بقدر معتدل، في الوقت المتبقي من الزمن على الشاشة يسير جرار زراعي، ومضخة تستخرج النفط، برنامج “ساعة ريفية” بالضبط كما هو الحال عندنا، امرأة مسنة تشرح كيفية غرس نخلة، وهذا كله معروف جدا لنا بتلفزيون السبعينيات في الاتحاد السوفييتي،،، لما خرجنا للتنزه خلف جدار السرايا الحمراء، كنا ببساطة مصدومين بحجم الخراب، ثلث المنازل غارقة في الأنقاض، قمامة مخيفة، تعوّد الناس على إلقائها كيفما اتفق، و لا يأبه لرفعها أحد على الإطلاق، ويمكن التساؤل من قصفها!؟ حسب علمي منذ الحرب العالمية الثانية لا أحد حارب هنا، يبدو أن الأنقاض والقمامة جزء أساسي خاص بطريقة تطور الحضارة المحلية.. المشي صار مرعبا.

هذه الصورة على بشاعتها معروفة لليبيين، هي بالفعل صورة “الجماهيرية البديعة”، فكيف يتسنى لبلد كهذا أن يقود مشروع توحيد قارة بمواصفات القارة الأفريقية التعيسة، والتي لا تختلف تعاسة دولها عن ليبيا؟.

أليس الأجدر أن تجعل بلدك أولا أنموذج لتبني عليه؟، أما انك تعيش في وهم يصنعه خيالك؟ الحقيقة وضع “الجماهيرية البديع” لا يؤهلها لقيادة مشروع بهذا الحجم، لذلك لا أجد مصداقية في الادعاء بان الغرب “الإمبريالي” تأمر على ليبيا لخوفه من هذا المشروع.

وفي حديثه أيضا قال كانت هناك العديد من الفرص لاستبعاد الحرب والوصول إلى حلول بين المتمردين والنظام، وقال: طالبنا العديد من المرات بإنشاء لجنة تحقيق دولية تحقق في المزاعم التي أدت إلى التمرد، كما طالبنا بقوة حفظ سلام أفريقية لإيقاف القتال، ودعونا إلى مؤتمر ليبي يجمع الجميع بمن فيهم المتمردين للوصول إلى حل، طبعا، من السهل أن تسترسل في إنشاء ما تريد، وربما فعلا طالبوا بهذه الأمور لكن بشروطهم التي ربما لم تكن مقبولة من “المتمردين” أو حتى الوسطاء .

لكن هل غاب عن موسى إبراهيم خطاب العقيد الذي وصف فيه “المتمردين” بالــ”جردان”؟!…، وكيف هددهم في خطابه الذي أصبحت كلماته تتردد بسخريه على كل فم “زنقه زنقه دار دار”.

موسى إبراهيم، كغيره من الموهومين، سجناء ورهائن السياج الدوغمائي  الذي أحاطوا به انفسهم، وصدقوا ما أنشاء “كبيرهم” من معاني لا تمت إلى واقع الحال، بل حال البلاد يخالفه تماما كما ورد في شهادة “رفيقنا” سيمو، وفسروا ما يحدث حولهم بمزاج منظرهم صاحب نظرية “الانعتاق النهائي”، فاختلطت عليهم الحقيقة بالوهم، وحاولوا أن يصدروا أوهامهم على أنها حقائق وطالبوا غيرهم أن يصدقوها.

مازال يتحدث عن “الثورة الخضراء”، وقد سبقت وان أكلت هذه “الثورة الخضراء” اخضر ويابس هذه الأرض، وما يحدث الآن ما هو إلا نتاج الهدم الممنهج لأركان الدولة خلال العقود التي سبقت ثورة فبراير.

استعير هنا ما جاء في مقال السيد عمر الككلي “ما يرضعه العجل ….” حيث يقول، وأنا اتفق تماما معه: سياسة الإفراغ من المحتوى، والتشويش، وخلط الأوراق، كانت منهجا منظما، وعملا دؤوبا انتهجه النظام السابق، ممثلا في معمر القذافي، بإتقان لا لبس فيه، ما زلنا نعاين ونعاني آثاره التدميرية، وما زالت طاقته المنفلتة فعالة من حولنا، وفي أنفسنا،، فمن إفراغ المؤسسات من مضمونها وتقويض أركانها، إلى خلط المفاهيم، وتمييع القضايا، إهمال المعايير، وإشاعة روح الاستسهال والاستهانة بكل شيء….. إن معمر القذافي ركز جهده واجتهاده على تنمية أسوأ جوانب الذهنية الليبية وإخصاب أسوأ ما في البيئة الثقافية الليبية.

السياج الدوغمائي ليس حكرا على مؤيدي أنظمة الاستبداد، فهو نفس السياج الذي جعل الصهاينة يعتقدون بأنهم أمة مختارة رغم كل الشرور التي يرتكبونها، وجعل السلفيين يعتقدون لأنهم خير لأمة أخرجت للناس رغم كل التخلف الذي يعيشونه، وجعل الشيعة سجناء مظلومية الحسين، والجنس الأبيض سجين فكرة تفوقه العرقي، ومؤيدي المستبدين سجناء فكرة أن الإمبرايالية العالمية تحارب ـنظمتهم.

ليس الناتو من قصف ليبيا، بل الهدم الممنهج والتدمير المقصود الذي مورسا على مدى أربعة عقود هو من قصف ليبيا.

وللأسف لا زال السياج الدوغمائي يحبس العديد من مؤيدي ذلك النظام وجعلهم يعملون ما أمكنهم على تقويض إعادة بناء الدولة، من خلال التنظيمات التي يصنعونها، والتي لا شك أنها مدعومة من بعض الدول كجبهة الثورة الخضراء، والجبهة الشعبية لتحرير ليبيا، والحركة الوطنية الشعبية الليبية.

ومن اكبر مظاهر الانفصام عند هؤلاء أنهم يتحدثون عن الديمقراطية والحرية وكرامة الإنسان، وكأن نظامهم “الجماهيري البديع” لم يحطم هذه القيم مما استوجب الثورة عليه.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا