الطريق إلى الكارثة - عين ليبيا

من إعداد: عبدالرزاق العرادي

أربع محطات ورطتنا وأوردتنا هذا الوضع المتأزم. هذه الأخطاء أو المحطات المفصلية ساهمت بشكل كبير في تعميق حالة الاستقطاب الحاد التي أدت في نهاية المطاف إلى الكارثة.

أولى هذه المحطات هو التلكؤ في تقديم الجناة للعدالة في أول جريمة اغتيال بعد الثورة، وهي جريمة قتل اللواء عبدالفتاح يونس ومرافقيه. والمحطة الثانية كانت إصدار قانون مشوه لانتخاب المؤتمر الوطني العام، مما إدى إلى سيطرة النظام الفردي على المشهد السياسي، وتشكيل كتل جديدة لم يجمع بينها إلا قبة المؤتمر.

المحطة الثالثة كانت بإصدار قانون العزل السياسي الذي أقصى كثيرين، وعلى رأسهم بعض شركاء الثورة. وأما المحطة الأخيرة فهي عدم منح الثقة لحكومة الدكتور مصطفى بوشاقور لنصل في نهاية المطاف إلى حكومة زيدان وأدائه الكارثي.

هل يجدي نفعاً أن نتذكر اﻵن هذه المحطات وقد حصل ما حصل؟. الحقيقة أن هذا جزء مهم من تاريخ ليبيا الحديث، وفي نفس الوقت نقف عندها ليتحمل أصحاب هذه المحطات مسؤولياتهم، ولكي يعتذروا إن وجب الاعتذار، أو يجبروا الخطأ إن أمكن، أو لكي تُستوعبَ الدروس وتُعرف أبعاد الكارثة وأسبابها.

أولا. اغتيال اللواء عبدالفتاح يونس:

صبيحةَ الخميس الثامن والعشرين من شهر يوليو 2011م، استيقظت بنغازي على خبر اعتقال واختفاء واغتيال الفريق (الرتبة منحت له بعد استشهاده) عبدالفتاح يونس واثنان من مرافقيه رحمهم الله جميعاً. قام أفراد ينتمون إلى كتيبة أبوعبيدة بن الجراح بإطلاق وابل من الرصاص عليه، وعلى مرافقيه العقيد محمد خميس، والمقدم ناصر المذكور، ثم قاموا بإخفاء الجريمة من خلال حرق جثث القتلى ونقلها إلى مكان آخر بعيد عن مسرح الجريمة.

ركز المجلس الوطني الانتقالي بالتحقيق في الجانب الإداري واعترى الجوانب اﻷخرى الضعف. هذه الجوانب كانت تقع تحت سلطة المكتب التنفيذي والنيابة العامة والادعاء العسكري، وذلك بسبب ضعف الدولة ومؤسساتها وانشغالها بالحرب الدائرة ضد نظام القذافي.

لم تقم الحكومات المتوالية بجهد كبير لإقامة العدل في هذه القضية التي تعد أم الجرائم؛ وتوالت جرائم الاغتيالات بعد ذلك بلا حسيب ولا رقيب؛ فعانت ليبيا من هذه الاغتيالات وما زالت تعاني حتى تاريخه. كان من الممكن الاستعانة بخبرات دولية في التحقيق وفي كشف المجرمين وفي تدريب الكوادر القادرة على القبض على الجناة وتقديمهم للعدالة،ولكن كل الحكومات المتعاقبة فشلت في تحقيق أي تقدم في أي من هذه الإغتيالات.

ثانياً. قانون انتخاب المؤتمر الوطني العام:

شكل المجلس الوطني الانتقالي لجنة للانتخابات يكون من مهامها إعداد مشروع قانون انتخاب المؤتمر الوطني العام، وقامت اللجنة بتقديم مسودة المشروع، والذي ينص على انتخاب مائتي عضواً  بالنظام الفردي. اعترضت مؤسسات المجتمع المدني ونشطاء سياسيون على هذا القانون وطالبوا بتعديله.

من هؤلاء الذين اعترضوا وشاركوا في صياغة مسودة جديدة لمشروع قانون انتخاب المؤتمر الوطني العام الدكتور منصور ميلاد يونس والأستاذ صلاح المرغني والدكتور الكوني عبودة والأستاذ إسماعيل القريتلي والأستاذة عزة المقهور والدكتور الهادي بوحمرة والأستاذ هشام الشلوي والدكتور نجيب الحصادي وآخرين.

قامت هذه المجموعة من الخبراء بتقديم مسودة مشروع القانون الذي يقضي بتخصيص 136 مقعداً لنظام القائمة و64 مقعداً للنظام الفردي، وقام المجلس الوطني الإنتقالي بإقرار هذا المشروع. مشروع القانون وُضع بطريقة علمية كفيلة بأن تمنح القائمة الفائزة بتشكيل الحكومة من خلال التشاور والتوافق على الحكومة وتعفي الشارع من التنافس المحموم الذي حصل في انتخاب رئيس الحكومة.

هذا القانون الذي أشرف عليه هؤلاء الخبراء، كان سيسمح بانتخاب اﻷعضاء وفق برامج وتوجهات محددة، لا على شهرة رياضية أو إعلامية أو دينية، وكان سيمنع تغول قائمة بعينها على المشهد السياسي، ويسمح بمشاركة أوسع للمرأة.

لم يكن الدكتور فتحي البعجة حاضراً في تلك لجلسة التي أقر فيها مشروع القانون، ثم جاء في الجلسة التالية يتهم الإخوان زوراً وظلماً وبهتانًا بتمرير مشروع القانون وأنهم كانوا وراءه. شكل هذا الاتهام سابقة في بداية الحرب الظالمة على التيار الإسلامي. الأسماء التي ذكرت أعلاه تشهد بأن الدكتور فتحي البعجة قد جانب الصواب في اتهامه، وأن مشروع القانون الذي أقر طالب به وقام بصياغته شخصيات وطنية مشهود لها في مجالها.

هذه الضجة فرضت على المجلس الوطني الانتقالي إعادة النظر في مشروع القانون. شكل هذا الاتهام ضغطاً  كبيراً على أعضاء المجلس، حيث استطاع الدكتور البعجة تخويفهم من مؤامرة الإخوان ومغبة سيطرتهم على المؤتمر الوطني العام إذا ما مرر هذا القانون، حسب زعمه.

قام اﻷستاذ فرحات الشرشاري بعد مداولات طويلة بتقديم مقترح بتحديد 120 مقعداً للفردي و80 مقعداً للقائمة. لم تكن هذه اﻷرقام تحمل أي دلالات، إلا مخرجاً لكي لا يتعطل إصدار القانون فتقوم المفوضية مجبرة، بتأخير موعد الانتخابات، وهذا ما لا يريده أعضاء المجلس الوطني الانتقالي، فغضب هؤلاء الخبراء، الذين ذكرت أسمائهم أعلاه، على تعديل القانون وتحفظتُ على تشويهه.

قانون الانتخابات الذي صدر مشوهاً، أدى إلى خروج المؤتمر الوطني العام مشوها أيضاً. لم يستطع تحالف القوى الوطنية الحصول على أغلبية المقاعد، بالرغم من تصويت ما يقارب تسعمائة ألف ناخب لصالحه، ولم يستطع أن يقيم تحالفات تمكنه من تشكيل الحكومة، أو الحصول على رئاسة المؤتمر وذلك بسبب هذا القانون المشوه.

شعر تحالف القوى الوطنية بخيبة أمل نتيجة عدم قدرته على نيل أي من المناصب القيادية، وساهمت حالة الاستقطاب الحادة، التي فرضها هذا القانون المشوه، في عدم قدرة الحزبين الرئيسين؛ تحالف القوى الوطنية وحزب العدالة والبناء على التوافق حول إدارة المرحلة والعبور بالبلاد إلى بر الأمان.

لا بد من التأكيد هنا، أنه لم يكن هناك صراع حزبي بين اﻷحزاب، كما يشاع، وياليته كان. فبالرغم من ترشح بعض المنتمين للأحزاب تحت النظام الفردي، وهذا يكفله القانون وشرحته المفوضية، إلا أن الحقيقة هو سيطرة النظام الفردي والكتل الجديدة على المشهد.

أمام خيبة اﻷمل هذه ونجاح التحالف في الدفع بزيدان رئيساً للوزراء، بدأ التفكير للسيطرة عسكرياً على السلطة وحسم الصراع عسكرياً. بدأ استغلال الحكومة في السيطرة على ملف الخارجية والوزارات التي تقوم بالتسليح واستغلال الحكومة لشراء الولاءات. قانون الانتخابات المشوه أغلق اﻷفق السياسي ليحل محله اﻷفق العسكري وحوار الرصاص.

ثالثاً. إقرار قانون العزل السياسي:

قد يبدو للوهلة اﻷولى أن تيار الإسلام السياسي، كما يحب أن يسميه مناوئوه، هو من كان يقف وراء إصدار قانون العزل السياسي، وهذا القول هو المشهور، بسبب اﻵلة الإعلامية التي تولت مسؤولية تزييف الوعي. الدكتور محمود جبريل كفانا مؤونة تفنيد هذا الادعاء؛ فقد اعترف على قناة العربية بأن حزبه تحالف القوى الوطنية وحزب الجبهة الوطنية هما من كان يقف وراء هذا القانون بصيغته الحالية. ولقد كتبت مقالا في حينه في جريدة ليبيا الجديدة بعنوان؛ “اعدلوا هو أقرب للتقوى” أكدتُ فيه ما ذهب إليه الدكتور جبريل وسردت قصة إقرار هذا القانون.

لقد كانت هناك مسودات أخرى لم يلتفت إليها؛ بسبب التنافس المحموم بين هذين الحزبين؛ التنافس كان على تقديم مسودات تقصى هذا أو ذاك، ولم تكن على أسس ومعايير موضوعية محددة، يتم الاحتكام إليها وتراعي شركاء الثورة.

قانون العزل السياسي أقصى العديد من الخبرات وترك جراحاً في صدور شركاء الثورة، وفيمن قَبِلَها كأمر واقع، أو فيمن وجد ضالته فيها بعد سنين الاستبداد.

أعُلنت الحرب على الثورة والثوار وعلى المؤتمر وعلى اﻷحزاب، وشنت وسائل الإعلام المحسوبة على التحالف حرباً، لا هوادة فيها على كل من خالفها.

إصدار قانون العزل السياسي بهذه الصياغة كانت خطيئة سببت في تجميع الصفوف ضد الثورة في ثورة مضادة يستخدم فيها السلاح، والغريب في الأمر أن يشارك في هذه الثورة المضادة بعض من تورط في إقرار هذا القانون.

رابعاً. عدم منح الثقة لحكومة الدكتور مصطفى أبوشاقور:

بالنظر إلى النتائج الكارثية وإلى حجم المؤامرة والنفوس التي أزهقت بعد تولي اﻷستاذ علي زيدان أول حكومة منحها المؤتمر الوطني العام الثقة، فإن قرار عدم منح الثقة لحكومة مصطفى أبوشاقور كان خطأً. وبالرغم من أن الدكتور بوشاقور يتحمل مسؤولية ضعف اختياراته، إلا أن البديل كان كارثياً. لم يكن في الحسبان أن الكارثة ستكون بهذا الحجم ولم يكن في الحسبان أن التآمر كان على أشده من اليوم الأول.

حزب العدالة والبناء للأسف شارك في صناعة هذه الكارثة من حيث يريد الإصلاح. وذلك من خلال عدم منح الثقة لبوشاقور والتأخر في الانسحاب من حكومة زيدان الكارثة.

لا يُعفى حزبُ العدالة والبناء من المسؤولية حتى وإن قيل إن عدد أعضاء كتلة الحزب بالمؤتمر في ذلك الوقت لم تتجاوز الـ 34 عضواً، بينما الذين صوتوا بعدم منح الثقة 144 عضواً. ولا يعفي الحزب أيضاً أن يكون رئيسه في مهمة خارج البلاد، وطالب نائبه واﻷمين العام ورئيس الكتلة (الثلاثة استقالوا من الحزب، في وقت لاحق) بالتواصل مع بوشاقور لتعديل تشكيلة الحكومة وإعادة تقديمها إلا أنهم أصروا على عدم منحها الثقة. لا يعفي الحزب أيضاً أنه لم يصر على مطالبة بوشاقور بحقائب معينة، بينما تبين لاحقاً أن رئيس الكتلة المستقيل خالف سياسة الحزب وطالب بوشاقور بحقائب محددة كشرط لمنح الثقة.

لم يتم التوافق مسبقاً، بين التحالف والعدالة، على قرار عدم منح الثقة للدكتور بوشاقور، كما هو مشهور، ولكن التقت إرادتهما تحت القبة. بعد ذلك حاول حزب العدالة والبناء وتحالف القوى الوطنية التواصل للاتفاق على شخص رئيس الحكومة وفشلت هذه المحاولات أمام إصرار التحالف على ترشيح زيدان.

وقعت الكارثة بتصويت بعض أعضاء الجنوب من حزب العدابة والبناء وبعض اﻷعضاء المحسوبين على تيار الثورة، لزيدان، وتفاقمت الكارثة بسفر بعض اﻷعضاء ومنهم من ينتمي للعدالة إلى الحج وتغيبوا عن جلسة التصويت.

خاتمة:

قد تكون هناك محطات أخرى سببت الأزمة التي نعيش، ولكن النافدة التي أنظر منها لما حدث وكنت شاهداً عليها، هي المحطات اﻷربع التي ذكرتها وهي التي قادتنا إلى الكارثة، ثم إلى هذه الأزمة، في تقديري الشخصي.

يتحمل المجلس الوطني الانتقالي بكامل أعضائه مسؤولية التلكؤ في تأخر إقامة العدل في أم الجرائم في عهد الثورة، كما يتحمل المكتب التنفيذي أيضاً نفس القدر من المسؤولية.

يتحمل الدكتور فتحي البعجة المسؤولية في صدور قانون الانتخاب المشوه وما نتج عنه. ويتحمل كل من تحالف القوى الوطنية وحزب الجبهة الوطنية المسؤولية بالدرجة اﻷولى عن صدور قانون العزل السياسي بهذا الشكل الإقصائي، كما يتحمل المسؤولية أيضاً  كل من صوت لهذا القانون.

ويتحمل المسؤولية عن تولي زيدان رئاسة الوزراء تحالف القوى الوطنية وكل من شارك في سحب الثقة من حكومة بوشاقور وعلى رأسهم حزب العدالة والبناء.

من المهم أن نبين هذه اﻷخطاء ليتحمل كل طرف مسؤوليته. اﻷخطاء من طبيعة البشر والعمل السياسي يدور ما بين الخطأ والصواب، فيجبر الخطأ بالاعتذار والتصحيح، ولكنه إذا دار في مجال الحق والباطل، فلا يجوز بحال الوقوف مع الباطل، ولا يُجدي في هذه الحالة الجبر ولا الاعتذار.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا