الفبرايريون تائهون والسبتمبريون متربصون ومختلفون، والعسكر عائدون - عين ليبيا

من إعداد: د. عبيد الرقيق

بعد سبع سنوات من انتفاضة فبراير، يمكن تقييم الوضع الليبي الراهن، من خلال رؤية ترتكز على معايشة يومية للأحداث ومتابعة عن قرب، وأخذا في الاعتبار ان الشعب الليبي قد انقسم على نفسه اثناء احداث الانتفاضة بين مؤيد ورافض، واستمر ذلك الانقسام حتى تاريخه، مع حدوث تغيرات جوهرية في حجم الكتلتين كنتيجة طبيعية لما آل اليه الوضع الليبي بعد الانتفاضة من هشاشة سياسية وفراغ قيادي، أدت الى فوضى مسلحة تحكمت في مفاصل الدولة الاقتصادية والمالية، وفي سياستها الخارجية والداخلية حيث فتح الباب واسعا لنشوء وظهور العديد من التشكيلات المسلحة ذات الأيديولوجيا سياسيا ودينيا وجهويا وقبليا.

في الفترة من فبراير الى أكتوبر 2011 تمكن انصار فبراير من السيطرة على البلد، وانهاء حكم القذافي بمساعدات عسكرية ولوجستية كبيرة من حلف الناتو، حيث اعلن في 20 أكتوبر رسميا سقوط نظام القذافي، وتولّى الحكم انصار فبراير من خلال المجلس الانتقالي الوطني الذي خلفه في النصف الثاني من عام 2012 المؤتمر الوطني العام، والذي استمر بدوره الى النصف الأول من عام 2014 وتحديدا في شهر يونيو، حين تم انتخاب مجلس نواب جديد، الا انه لم يدم  تماسك الفبرايريين طويلا اذ بدأت تدب بين مكوناتهم الخلافات الايديولوجية والسياسية، وظهرت مؤشرات واضحة على ذلك اعتبارا من النصف الثاني من عام 2012 حين انقسم المؤتمر الوطني عن نفسه الى كتلتي تحالف القوى الوطنية وتحالف القوى الإسلامية والتي انقسمت على نفسها فيما بعد كذلك!

ولقد تحولت مظاهر الخلاف في كتلة فبراير من مجرد ملاسنات وتصريحات إعلامية، الى مواجهات عنيفة استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة من الخفيفة الى الثقيلة حيث انقسم الفبرايريون على انفسهم الى شطرين كتلة ما يسمى بالكرامة، وكتلة ما يسمى فجر ليبيا والتي يقودها التيار الديني، وأسفر ذلك عن مواجهات عنيفة في طرابلس خلال شهر يوليو 2014 وتم الاستيلاء على العاصمة من قبل قوات فجر ليبيا مع نهاية شهر سبتمبر من نفس العام، ثم انطلقت قوات فجر ليبيا الى ما وراء طرابلس في ملاحقة لفلول الميليشيات المسلحة التي يتشكل ثقلها من قبيلة الزنتان والذين اجبروا الى الرجوع الى بلدتهم في الجبل الغربي بعيدا عن طرابلس بحوالي 160 كم

واقعيا بدأت كتلة أنصار فبراير في التآكل تحت تأثير عوامل الفوضى وانعدام الأمن منذ نهاية عام 2013 حيث فقدت الكثير من أنصارها وخاصة من عموم الشعب الذين لا اجندات سياسية او دينية لهم، وكانوا يرون في التغيير تحولا الى الأفضل لكن ما حدث هو العكس تماما! فالدولة الليبية أصبحت تنهار كل يوم والوضع الاقتصادي بدأ يسوء ويشتد مما ضاعف من معاناة الليبيين وضيّق عليهم سبل العيش البسيط، فأنعدم الأمن وكثرت اعمال القتل والحرابة والخطف على الهوية وهو ما دفع الكثير من انصار فبراير الى الحسرة وجعلهم يشعرون بالندم ولقد استحقوا حقا ان يوصفوا بالنادمين.

اما انصار سبتمبر فبعد ان شعروا بهزيمتهم وسقوط رمزهم القذافي، تفرقت بهم السبل بين نزوح وتهجير داخل الوطن وخارجه، واجبروا على الاعتراف بسطوة الفبرايريين ومكثوا على بعد ينتظرون وعن قرب يراقبون ويتربصون، الا انهم وجدوا في ظهور الخلاف بين انصار فبراير متنفسا لهم، ما دفعهم للمجاهرة والاعلان عن تمسكهم بنظامهم السابق، من خلال ملتقيات ومسيرات هنا وهناك، ورافق ذلك ظهور وعودة قنوات إعلامية محسوبة على نظام القذافي فالتفوا حولها، وتواصلوا معها، وقدمت لهم زخما إعلاميا افتقدوه، حيث تم الإعلان عن بعض التنظيمات السياسية في الخارج من انصار نظام القذافي.

وقد  كان أول تلك التنظيمات ما يعرف بالجبهة الشعبية لتحرير ليبيا التي اتخذت من مصر مقرا لها وأعلنت عن نفسها في عام 2014، ثم تلى ذلك ظهور فصيل سياسي اسمه جبهة الخلاص الوطني يتخذ من الجزائر مقرا له تدعمه عائشة القذافي تم الإعلان عنه خلال عام 2015 ويهدف الى عودة نظام اسرة القذافي تحديدا ويقدم سيف الإسلام كحاكم لليبيا الجماهيرية الجديدة، بالإضافة الى تيار سياسي ثالث يدعمه احمد قذاف الدم في مصر ويلتف حوله الكثير من أنصار القذافي أيضا، هذا في الخارج اما في الداخل فان الجسم الوحيد الذي تم الإعلان عنه رسميا حتى الآن ويمثل انصار النظام السابق هو ما يسمى بمؤتمر القبائل والمدن الليبية والذي يبدو ظاهريا انه يشمل كل المدن والقبائل الليبية.

لكن يبدو ان كل هذه الاجسام التي ظهرت على الساحة من فبرايريين وسبتمبريين تمتلك رؤى مختلفة ويصعب عليها ان تلتقي موحدة سياسيا، فهي واقعيا تقاد بزعامات جلّها تبحث عن كراسي الحكم ، وتتمسك بثوابت محددة بحكم انتمائها لتيار واحد، الا أن مشكلة بعضها انها متشددة ولا تقبل التعايش أو مشاركة أي طرف ليبي آخر، ولذلك يبدو أن ما يوحدها هو فقط رفضهم للآخر طالما هو موجود!، لكنهم في الحقيقة مختلفون توجها ومسارا، خاصة وأن بعضها يقبل الاعتراف بواقع التغيير ويرغب في الانطلاق من نقطة الصفر مندمجا مع الآخرين، في يحين يرفض آخرون ذلك رفضا قاطعا، إن تعدد تلك الاجسام يعد دليلا كاشفا لمدى الاختلاف بينهم وهو ما يحول دون مجرد التقائهم على طاولة واحدة لتوحيد جهودهم بل انهم أكثر من ذلك لا يعترفون ببعضهم حتى داخل كتلة فبراير او سبتمبر، ويصل بهم الخلاف حد تخوين بعضهم ومقاطعة بعضهم للآخر!

ما اتوقعه في مستقبل الشأن الليبي، هو تراجع كتلة فبراير كنتيجة حتمية لانحراف ساستها عن الأهداف الأساسية للتغيير ودخول البلد في حالة من الفوضى وعجز أنصارها عن السيطرة على الأمور والتصحيح، مما يجبرهم تدريجيا الى الابتعاد عن دائرة الاحداث، وينضمون بالتالي تلقائيا الى الكتلة الشعبية السالبة رغم ضخامة حجمها!، وبتلاشي كتلة فبراير واضمحلال تأثيرها،  سيحاول أنصار سبتمبر المتربصون الانطلاق، لكنهم سيجدون أنفسهم مكبلين بحجم اختلافهم، بل ان مواجهة داخلية بينهم ستبدأ مباشرة بعد خروج “الفبرايريون ” من دائرة الفعل والتأثير فهم واقعيا مبعث توحدهم واصطفافهم، تماما مثل ما حدث للفبرايريين قبلهم بمجرد سقوط النظام حيث تكشفت توجهاتهم العقائدية والسياسية المختلفة وانفجرت صراعاتهم واقتتلوا بمجرد سقوط القذافي!

إن الرابح الوحيد من لعبة التدافع في ليبيا اليوم بين انصار فبراير وانصار سبتمبر هم العسكر، والذين يبدو الأقرب الى تنظيم صفوفهم استنادا على تكتل قائم لهم بقيادة حفتر في الشرق والجنوب ومن سينظم معهم من الغرب تحت عقيدة واحدة هي العقيدة العسكرية الصارمة في حين يتراجع خصومهم من الطرفين باستمرار للخلف، وهم بذلك سيجعلون قوتهم دائما في تزايد لأنهم يمتلكون الإرادة والنفس الطويل والتنظيم الجيد ونجاحهم في بنغازي والمنطقة الشرقية قد يشكل زخما إيجابيا كبيرا لهم، ناهيك عن الدعم الدولي الذي يتلقونه من بعض الدول الإقليمية والمؤثرة في الصراع الليبي.

إذا في ظل هذا الواقع المأزوم سياسيا واقتصاديا ومعيشيا يتبلور الوضع الليبي في صورته النهائية ليكون مزيجا هلاميا من فبرايريين تائهين نادمين وسبتمبريين متربصين لكنهم مختلفون! وجموع من الشعب بائسة يائسة متذمرة، وهو ما يشكل أرضية مناسبة لعودة العسكر ليعلنوا عن الاقتحام وينتزعون المبادرة فيحركون سكون الافق المسدود، ويستغلون الفراغ السياسي الذي تعيشه ليبيا اليوم، لنجدهم وقد افتكوا السلطة وتحكموا في مفاصل البلد بالقوة الكافية للجم من سواهم من الميليشيات الغير منظمة والمنفلتة، وبذلك تكون ليبيا قد عادت الى حكم العسكر من جديد، وعادت لها هيبتها كدولة منضبطة، ولكن السؤال الكبير هو هل سيسمح العسكر بقيام نظام ديمقراطي فيما بعد، ويكونون مجرد مرحلة انتقالية لازمة فرضها الواقع؟! أم أنهم سيتغوّلون ويكون لهم شأن آخر فيما بعد!  هذا يعني بقاء أمل الليبيين في دولة ديمقراطية تتداول فيها السلطات مؤجلا ومعلقا الى حين!



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا