الفرق بين لا و لا - عين ليبيا

من إعداد: د. حسين سحيب

برقة عُرِفت تاريخيا بالالتزام السياسي والحكمة في إدارة الشأن السياسي، و لا أقول ذلك مجاملة أو لإرضاء أحد، و إنما هو واقع يمكن لكل شخص أن يلمسه بمجرد العودة إلى التاريخ السياسي لبرقة، فقد كانت دائما ذات موقف سياسي موحد سهل عليها إقامة كياناتها السياسية ابتداء من إمارة برقة، إلى أن كانت الحاضنة التي احتوت الدولة الليبية مجتمعة.

هذا النهج يعود الفضل فيه من وجهة نظري إلى قيادة الحركة السنوسية للمشهد السياسي، حيث انعكست طبيعة الحركة و الأخلاق التي تقوم عليها على المشهد السياسي مما سهل عليها، أي برقة، اتخاذ مواقف داعمة لإنشاء كياناتها السياسية، منها على سبيل المثال دمجها للناس في منظومة المصالحة الفورية بعد انتهاء الاحتلال الإيطالي بتأسيس مبدأ (حتحات على ما فات)، بالإضافة إلى اتخاذ مسلك اللين في محاورة باقي أطراف الوطن حتى نتج عن ذلك قيام الدولة الليبية الموحدة.

للأسف هذا الالتزام الأخلاقي لبرقة بدأ في التآكل عن طريق محاولة بعض الناس من أهلها إلى دفع برقة إلى التحلل من العهود و المواثيق بطريقة غير أخلاقية و غير صحيحة، ودفعها لاتخاذ مواقف تنافي تاريخها السابق المعروف بالالتزام السياسي العريق.

من مظاهر هذا التأكل محاولة البعض دفع برقة لاتخاذ موقف سياسي خاطئ من معالجة موضوع مشروع الدستور، و وضعها في موضع الناكثة لعهودها على غير العادة في المتعارف عليه من تاريخها السياسي وأنا هنا لا أريد أن أدفع الناس في برقة إلى التصويت على مشروع الدستور بنعم، و إنما إلى حثهم على تحديد موقفهم منه بطريقة حضارية تليق بمكانة أهل برقة السياسية و إرثها الأخلاقي، ويمتثل لقوله تعالى (يأيها أمنوا أوفوا بالعقود).

فكما نعلم أن الهيئة التأسيسية انتخبت على أساس التساوي في عضويتها بين الأقاليم الثلاث، كما لُبيَ في قانونها مطلب برقة في أن يكون اختيار أعضائها بنظام الانتخاب وليس التعيين، وقد التحق كافة أعضاء برقة بأعمالها و لم تشهد مقاطعة أحد منهم في أعمالها أثناء مناقشات مسودة الدستور، في حين شهدت الدوائر الأخرى تختلف بعض أعضائها أو مقاطعتهم لجلسات الهيئة فكان وضعهم هو الأمثل بين الدوائر الأخرى، ثم أقر مشروع الهيئة بنصاب الثلثين كما هو مقرر في الإعلان الدستوري وبموافقة أكثر من نصف عدد أعضاء برقة في هذه الهيئة.

وعندما بدأ الحديث حول استحقاق الاستفتاء على مشروع الدستور تم تلبية دعوة الحراك الداعي إلى تعديل آلية الاستفتاء و تقسيم ليبيا إلى دوائر ثلاث وفقا الأقاليم التاريخية لليبيا، واشتراط حصول المشروع على أغلبية النصف + واحد في دائرة حتى يعتمد المشروع كدستور للبلاد، وهو تعديل كنا من أنصاره ونراه منطقيا لأن إرادة اعتماد الدستور أولى من إرادة إعداد نصوصه، فما دام قد اعتمد مبدأ المساواة في عدد الأعضاء في هيئة الصياغة فالأولى اعتبار التساوي أيضا عند الاستفتاء عليه.

ومن ثم أصبح اعتماد مشروع الدستور أمر خاضع للإرادة المتساوية لجميع الأقاليم دون تغليب إقليم على آخر، فيكفي الإقليم المعارض أن يرفض مشروع الدستور و عدم منحه نصاب الـ50% ليضمن إسقاط المشروع و عودة طرحه للنقاش من جديد بغض النظر عن موقف الطرف الآخر.

فما دام الأمر كذلك فإنه من الجور و الظلم و الغباء السياسي أن يعارض أحد هذه الآلية ويحول بين الناس وبين إبداء رأيهم حول مشروع الدستور و يسعى إلى إسقاطه بغير طريق الاستفتاء فإذا أردت برقة كما يدعي البعض رفض المشروع فما عليها إلا سلوك هذا الطريق أي طريق الاستفتاء الذي يحفظ تاريخها و يكسبها احترام المجتمع الدولي ويحفظ إرثها السياسي من التشويه وسيكون رأيها في ذلك مستقل غير مبني على موقف الأقاليم الأخرى ولا مرتبطا بها لأنها تملك شرط إجازة واعتماد الدستور لوحدها كما تملك شرط إسقاطه شأنها في ذلك شأن الدوائر الأخرى.

أما ما يدعوها إليه البعض من اتباع مسالك أخرى تدعو إلى رفض طرح الدستور للاستفتاء بالطريقة التي عرضناها، فهو أمر أقرب للانتحار السياسي ومعيب لتاريخ برقة السياسي ويعزز ما يحول البعض ترويجه زورا من خلو برقة من الساسة المعتدلين وإنها تنبذ فكرة الدولة المدنية، وهو مسلك يكرر في الوقت نفسه تجربة العكاز المريرة التي هزت شرعية البرلمان دوليا وجعلت المجتمع الدولي يتعامل مع حكومة الوفاق دون اعتبار لموقف البرلمان منها، بالرغم من أنه كان في مقدور البرلمان إسقاطها بالطريقة الدستورية الصحيحة دون الحاجة إلى عكاز الحاج فرج الذي لم يفعل شيئا من الناحية الواقعية إلا منح حكومة الوفاق للشرعية الفعلية وغل يد البرلمان عن ممارسة أية رقابة عليها وتمتعها بالشرعية الدولية الكاملة.

مع ملاحظة أن ما قلته الآن لا يعني أنني من أنصار الاستفتاء الفوري على مشروع الدستور، بل لازلت أرى أن عملية إنجاز مشروع الدستور بشكل صحيح تستوجب إجراء انتخابات لإيجاد بيئة جديده قادرة على وضع مشروع الدستور موضع التنفيذ.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا