اللغة التباوية: هُوية الأمة وذاكرة التاريخ - عين ليبيا

من إعداد: حامد آدم

اللغة وظيفة عضوية وظاهرة اجتماعية وملكة إنسانية يرجع إليها تميز الإنسان عن باقي المخلوقات، وهي الوعاء الذي يُنتِج الفكر والعلم والمعرفة، ولذلك فهي محرك نشاط الأفراد والجماعات، ومن هنا أصبحت اللغة هي الحامل الأبرز لكل خطة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، بل تعدّت هذه الحدود لتصبح أداة لتنفيذ أي مخطط للهيمنة أو الاحتواء أو الإقصاء فعلى أساسها قامت أغلب الأحلاف السياسية في العصر الحديث: كفكرة الكومنولث البريطاني، ومنظمة الدول الناطقة بالفرنسية (فرانكوفونية)، ومنظمة الدول الناطقة بالأسبانية، وهذا ما جعلها محط أنظار علماء الاجتماع والأنثربولوجيا والاقتصاد والسياسة على حد سواء.

ومن هذا المنطلق لم تعدّ اللغة أداة للتواصل والنشاط الإنساني فحسب، بل أصبحت العنصر الأساسي لكل قوميّة ، فهي ذاكرة الأمة وأرشيفها عبر الزمن، ووعاء الثقافة وأساس الهوية لأي شعب من الشعوب، ذلك لأن اللُّغة والهُويَّة وجهان لشيء واحد، أو بعبارة أخرى: إنَّ الإنسان في جوهره ليس سوى لُغة وهُويَّة، اللُّغة فِكرُه ولسانه، وفي الوقت نفسه انتماؤه، وهذه الأشياء هي وجهه وحقيقته وهُويته، وشأن الجماعة، أو الأمَّة هو شأن الفرْد، لا فرق بينهما.

ولأن اللغة التباوية هي إحدى أهم مقومات الهوية التباوية ، فقد عملت هذه اللغة على حماية التاريخ والحضارة والثقافة التباوية عبر الزمن ؛ وكانت أحدى العوامل التي وحدّت التبو من مختلف المناطق.

ولقد إحتلت اللغة التباوية مكانة متميزة في نظر الباحثين والمستشرقين المنصفين الذين عرفوا خصوصيتها وراعهم قيمتها وجمالها، كالباحث الأمريكي “مارك اورثمان” الذي قال: (“قَلَّ منّا نحن الغربيين مَنْ يُقدّر اللغة التباوية حق قدرها ، من حيث أهميتُها وغناها، فهي بفضل تاريخ الأقوام التي نطقت بها وبداعي انتشارها في أقاليمَ كثيرة، واحتكاكها بمدنيات مختلفة، قد نمت إلى أن أصبحت لغةً مدنية بأسرها، بعد أن كانت لغة قبلية ، لقد كانت للغة التباوية ماضي مَجيدٌ، وسيكون لها مستقبلٌ زاهر”). ويضيف اورثمان أيضاً : (إن للغة التباوية من اللين والمرونة ما يمكنانها من التكيف وفق مقتضيات العصر، وهي لم تتقهقر فيما مضى أمام أي لغة أخرى من اللغات التي احتكت بها، بل ستحافظ على كيانها في المستقبل كما حافظت عليها في الماضي).

إلا أن هذه المكانة التي يقر بها غير التبو ، لم تجعل اللغة التباوية بمنأى عن تحديات كبيرة تواجهها على الصعيدين؛ الخارجي والداخلي، تتلخص في مجملها بمنافسة اللغات الأجنبية لها في حقول التعليم وخاصة العلوم والتكنولوجيات ، وانتشار المدارس الأجنبية والتدريس باللغات الأجنبية على حساب اللغة التباوية في مناطقهم.

وعلينا أن نتذكَّر أنَّنا في عصر تلعب فيه حالة لغات الشعوب دورا مهمًّا في المحافظة على كيان الأمَّة، أو التفريط فيه ، ولا ننسى كذلك أنَّنا في عصر العولمة التي تَحرِص فيه اللغات الكبرى المُسَيطِرة على التهام اللغات المنافِسة لها ، وذلك بإضعافها وتفتيتها بوسائل علميَّة وتعليميَّة وإعلاميَّة تَمَّ إعدادُها ودراستها بدِقَّة شديدة ، فهي لا تحارب فقط كلمات وقواعد وتراكيب، وتراثا شعريا أو نثريا، ولكنها تحارِب ما يرمز إليه ذلك كله، وتسعى إلى السَّيطرة على مقَّدرات أبناء هذه اللغة وثرواتهم، واستقلال ذواتهم، وصلابة قراراتهم؛ لكي يكونوا لقمة سائغة في خدمة عجلات الإنتاج ومَطامِع التوسُع، وتحقق الأمن لدى أصحاب اللغات والأهداف الأخرى.

فعلى سبيل المثال لا الحصر على شراسة الهجوم الذي تشنه اللغات الكبرى على اللغات المنافسة لها، تعرَّضت كثيرٌ من لغات إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية للاجتِياح أمام قوَّة اللغات الأوروبية الغازية في عصر التوسُّع الاستعماري بعد الثورة الصناعيَّة، متمثَّلة في اللغات الإنجليزية والفرنسية على نحو خاصٍّ، ومِن ورائها الإسبانية والبرتغالية والألمانية، وأمام هذا الاجتِياح سقطت لغات كثيرة، قدَّرتها منظمة اليونسكو بأكثر من ثلاثمائة لغة، وضعفَت أخرى وتصدَّعت أركانها وأساساتها، وهم يَوقَّعون لها مَزِيدًا من الضعف الذي قد يؤدِّي إلى الاندثار، خاصَّة إذا ساعَدَهم أبناء هذه اللغات أنفسهم على تحقيق الهدف، ولم تسلم اللغة التباوية من تلك المحاولات وخاصة في فترة هيمنة الاستعمار الفرنسي والعربي على الأراضي التباوية، والتي فرضت لغاتها على الشعب التباوي من الصحراء الى الساحل، ولعل الثورة الاولى في تشاد كانت في جانب كبير منها، تمرداً على محاولات الاستعمار الفرنسي القضاء على اللغة التباوية وإحلال الفرنسية مكانها بمساعدة تومبلباي (رئيس تشاد أنذاك).

وعلى الرغم من شدة الهجوم على اللغة التباوية إلا هناك مَن قيّضهم الله للدفاع عن هذه اللغة ، ممثلاً في دور بعض مجامع اللغة التباوية النشيطة، التي تحسست الخطر المحدق بلغتها، وكذلك فعلت بعض الهيئات الرسمية في بعض المناطق التباوية بالاهتمام بهذا اللسان المبين عبر مراحل التعليم ، بتطوير مناهج لتدريسها، وتماشيه بالتطور المذهل الذي يعيشه العالم أجمع ، دون إغفال الإعداد الجيد لمعلميها، والرفع المستمر من كفاءاتهم المعرفية، ودعم الطلاب بالوسائل العلمية الحديثة بالقدر الذي يجعلهم يواكبون المستجدات، ويستفيدون من مختلف التكنولوجيات حتى تستطيع هذه اللغة من مواجهة متطلَّبات الحاضر والمستقبل في المجال المعرفي والحضاري، وأن تتمكن بفضْل وعي وهِمَّة أبنائها للقيام بدورها الحقيقي في المحافظة على الهُويَّة، واستِعادة بعض مَلامِح الوجه المهدَّدة بالضَّيَاع.

فهذه اللغة الجميلة استطاعت في الماضي استيعاب جميع أنماط المعرفة الإنسانية.

وكما نجد العديد من اللغات الإفريقية تحمل في بطون معاجمها وقواميسها اللغوية عشرات المفردات من أصول تباوية.

يتبع..



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا