المسودة المعدلة .. نظرة متفائلة - عين ليبيا

من إعداد: عبدالرزاق العرادي

(1)

رفع الواقع: يرى مجلس النواب بطبرق أنه تم انتخابه من قبل الشعب الليبي في يونيو 2014م، واستلم السلطة بطريقة يرى أنها صحيحة، وعقد جلساته بمدينة غير مكان الانعقاد لظروف رجحها، وأصدر العديد من التشريعات، وأعلن الحرب على الإرهاب، ويرى أن العاصمة محتلة من قبل قوات خارجة على القانون.

بينما يرى المؤتمر بطرابلس أن أعضاء مجلس النواب خرقوا الإعلان الدستوري، وأنه لم يسلم السلطة بعد، وأنه الجسم الشرعي. جاءت أحكام الدائرة الدستورية لتحكم ببطلان جلسات النواب بطبرق، وأن القانون الذي انتخب على أساسه المجلس، وكل الآثار المترتبة عليه في حكم المنعدم. ويرى المؤتمر في ذات الوقت أن الثورة تتعرض لمحاولة انقلابية مسلحة وهو معني بالتصدي لها.

أعلن حفتر عملية الكرامة وهو لا يزال لواء متقاعد، أعيد للخدمة، بعد شهور من بداية عملية الكرامة، من قبل مجلس النواب بطبرق الذي أيد العملية وساندها. كما أعلن الثوار بطرابلس عملية فجر ليبيا، للتصدي لهذه المحاولة الانقلابية، حسب وجهة نظرهم، وأيد المؤتمر العملية وساندها.

انقسم المجتمع الليبي على كل المستويات؛ السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والعسكرية. فأصبح لدينا مجلسان تشريعيان، وحكومتان، وجيشان، وثوار 17 فبراير هنا، وثوار هناك، وأصبح لدينا نواب مقاطعون للبرلمان، وأعضاء مؤتمر مقاطعون لجلساته.

اقتتل الأطراف، وحصدت الحرب العديد من الأرواح، ودمرت العديد من المنشآت. لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص، كان عنوان المرحلة واصطف الناس إما هنا أو هناك. زادت المعاناة لدى الشعب الليبي، ودمرت مدنا، وزاد عدد النازحين، وتوقفت الحياة، وأصاب الناس شظف عيش شديد وأصيبت الحياة الاقتصاد بانهيار شبه تام.

وجد الإرهاب مساحات تمدد فيها وحصد العديد من الأرواح وسيطر على عدد من المدن. راج الخطف والسرقة بالإكراه، وازدهرت الجريمة المنظمة، ونشط تجار المخدرات والخمور، ونشروا سمومهم بين شبابنا العاطل عن العمل، نتيجة الوضع المأساوي الذي وصلوا إليه. استبيحت الحدود، وراج الاتجار بالبشر، وأصبح بحر ليبيا معبراً لقوارب الموت التي تحمل المهاجرين إلى حتفهم بدم بارد.

(2)

الحوار والمسودة الرابعة المعدلة: أمام هذا الواقع المؤلم، وفي ظل عجز أي من الأطراف عن الحسم العسكري الكامل، أصبح جلياً أن الحل لم يعد عسكرياً، وأنه لا مفر من الحل السياسي المبني على جلوس المتحاورين، والتوصل إلى اتفاق ينهي الانقسام، ويفضي إلى تشكيل حكومة وفاق وطني قادرة على البدء في جبر الأضرار، تبدأ الإعمار وتداوي الجراح، وتلم الشمل وتمهد الطريق للمصالحة الوطنية الشاملة.

اختارت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا طيفاً من المجتمع الليبي، من بينهم وفدا مجلس النواب والمؤتمر الوطني العام، للتوصل إلى اتفاق ينهي القتال والانقسام. بعد عدة جولات تم إصدار أربعة مسودات، صيغت مشبعة بأن مجلس النواب هو الجسم الشرعي. وكانت النقاط الجوهرية المختلف عليها في المسودة هي:

  1. الحكومة والمناصب السيادية؛ كيف تعين؟ وكيف تعزل؟.
  2. الجيش الليبي والأجهزة الأمنية؛ هل تؤسس من جديد أم تفعل؟.
  3. مجلس النواب وتشريعاته السابقة؛ هل الاتفاق منشئ له؟ وهل تشريعاته قائمة أم منعدمة؟
  4. مجلس الدولة؛ هل هو المؤتمر الوطني بكل أعضائه؟ أم هو خليط من أعضاء المؤتمر وغيرهم؟.

وقبل أن أخوض في التقدم والتقهقر الذي أحدث في المسودة الرابعة المعدلة، أود أن أشير إلى أمرٍ هام يساعد في إلقاء نظرة تفاؤلية على الواقع الجديد الذي نسعى أن توصلنا إليه هذه المسودة أو غيرها.

لابد أن نزيح النظارة السوداء لنرى الواقع على حقيقته. بداية لن يستطيع أي من المؤتمر الوطني العام ولا مجلس النواب، أن يشكل هذا الواقع لوحده، وكما يحلو له، فهناك طرف آخر في الجهة المقابلة له مطالب، وبالتالي ستكون أي مطالب لطرف وجهاً لوجه أمام مطالب الطرف الآخر.

كما أن انضمام أعضاء مجلس النواب المقاطعين وهم في الغالب من العيار الثقيل، وتغير مكان انعقاد جلسات البرلمان، ستحرر الإرادات، ويستطيع عضو مجلس النواب، أن يمارس مهامه بعيداً عن ضغوط الحرب والواقع، والابتزاز الذي مارسته بعض مراكز القوة. وبالتالي لن يكون من السهل تحقيق حاجز الـ 150 عضواً، إلا بتوافق مبني على مصلحة وطنية راجحة.

أي أن الواقع الجديد لن يكون فيه “نحن” و “أنتم”، بل يرجى أن يكون كله “نحن”. كما يرجى أن يكون مبنيا على التوافق، ولمملمة الشتات، وجبر الأضرار، ومواساة الأرامل والأيتام، وإعمار المدن وعودة النازحين، وهذه كلها أعمال تحتاج أن نكون كلنا بالفعل “نحن”.

قبل الخوض في تفاصيل المسودة لابد أن نعي أن المرونة واستشراف المخاطر التي تواجه البلاد وتفاديها لا يستطيعها إلا الحكماء، لكن التشدد يحسنه كل الناس. وأن المتشددين يرفضون دون أن يقدموا حلولا لما نحن فيه. دق طبول الحرب ورمي المخالف بالخيانة والتخاذل… ليس إلا.

(3)

عودة إلى المسودة: إن أعظم إنجاز حققته هذه المسودة هو احترام استقلال القضاء وأحكامه وقراراته وبالفعل فقد أحدثت المسودة اختراقاً كبيراً حينما عدلت المادة (67) من نصها السابق التي كانت تقول: “يلتزم مجلس النواب بإجراء تعديل للإعلان الدستوري بما يتفق…”، إلى النص الجديد في المسودة المعدلة؛ “يتم تعديل الإعلان الدستوري بما يتفق…”. وهذا النص ترك الأمر لكل من يعتقد أنه يملك الشرعية أن يعدل الإعلان الدستوري. وترك الأمر للدائرة الدستورية لتعمل بالتعديل الذي تراه تعديلاً دستورياً.

هذا الأمر كان من أهم ما نادى به المؤتمر الوطني العام وناله. وتبعاً لذلك فإن كل قرارات مجلس النواب عرضة للطعن أمام الدائرة الدستورية إذا ما عمل بها مجلس النواب. وبالتالي على مجلس النواب بالفعل أن يبدأ بداية جديدة إذا ما أراد أن يتفادى طعون المحكمة الدستورية.

وبالنسبة لحكومة الوفاق الوطني فإن مجلس رئاسة الوزراء، وهو بالمناسبة القائد الأعلى للجيش الليبي، يتم تحديد أسمائه من قبل الأطراف. ولا يتم سحب الثقة منها إلا بموافقة 150 عضواً، وهذا عدد كبير ويعتبر تحصيله شبه مستحيل، وذلك بعد مشروع يقدمه خمسون عضواً، وإلزام مجلس النواب باستشارة المجلس الأعلى للدولة.

وأما بالنسبة لشاغلي المناصب السيادية السبعة (المصرف المركزي وديوان المحاسبة، والرقابة ومكافحة الفساد، والمفوضية العليا للانتخابات، والمحكمة العليا والنائب العام) فإنه بعد التشاور بين النواب ومجلس الدولة لا يتم تعيينهم أو إعفاؤهم إلا بموافقة 150 عضواً من مجلس النواب. وهذا أيضاً ليس سهلاً بالنظر إلى عودة المقاطعين وتغير مكان الانعقاد.

المعضلة الرئيسية هي في قضية المؤسسات الأمنية وعلى رأسها الجيش الليبي والأجهزة الأمنية، ولكن أهم نقطة غفل عنها من غالى في التخويف من المسودة هي أن كل التشريعات التي أصدرها مجلس النواب باطلة بنص أحكام الدائرة الدستورية، ومنها إعادة اللواء المتقاعد خليفة بلقاسم حفتر إلى الخدمة.

كما أن إعادة تفعيل الجيش لا يعني الجيش بصورته القديمة، ولكن هناك أعدادا كبيرة من الجيش الذي انحاز إلى الثورة وإلى صفوف فجر ليبيا تحديداً. كما أن المسودة تنص على انضمام من أراد من الثوار إلى هذا الجيش. وأما بالنسبة للأجهزة الأمنية فهناك قوافل من الثوار دخلت إلى هذه الأجهزة رسمياً، ومن أهم أعمال الحكومة تأهيل هذا القطاع من جديد، سواء من كان فيه أو من انضم إليه.

(4)

وفي كل الأحوال عرفت المسودة المعدلة الجيش وأشارت إلى مهامه وإلى عدم المساس بالنظام المدني الدستوري، ومن تجرأ على المساس بهذا المسار فإن الشعب قد عرف طريقه ولن يسمح بالانقلاب على المسار المدني وعودة الاستبداد.

المؤتمر الوطني العام عليه أن يحاول تحسين طريقة تشكيل المجلس الأعلى للدولة ما استطاع، فقد قام وفده المفاوض بعمل شاق ومشكور، بالنظر إلى أن المسودة من الأساس قد صيغت برؤية منفردة. المسودة  كانت تصر على أن مجلس النواب هو الجسم الشرعي، والمؤتمر حقق إنجازا كبيراً حينما أصر على المحافظة على مؤسسة القضاء وضرورة احترام استقلاليته وأحكامه وقراراته.

كما سبق وأن ذكرت؛ وقف الرئيس البوسني على عزت بيجوفتيش في دايتوان يخاطب شعبه ويقول “هذا أقصى ما استطعنا الحصول عليه”. أوجه تساؤلي لرافضي المسودة بالكلية؛ مالذي ستحصدونه لنا برفضكم؟ هل استشرفتم إلى أين تقودوننا؟ في ظل واقع مؤلم، وتوقف لحياة الناس ومعاشهم وانتشار للإرهاب والجريمة وفي ظل استمرار ضعف المؤتمر والنواب وتفتيت المفتت وتفريق المفرق، وتقلص دائرة داعميهما، وفي ظل انحياز دولي سيكون قاسيا هذه المرة.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا