المصالحة الليبية والحاجة للمصالحة الدولية - عين ليبيا

من إعداد: أ.د. فتحي أبوزخار

نود أن نستهل مقالتنا بكلمات البابا فرنسيس للرئيس الأمريكي السيد جو بادين يقول فيها: “أدعو الرب أن يرشدك لتحقيق المصالحة في أمريكا العالم“ فالواضح بأن الوضع في ليبيا، كما هو بباقي دول العالم، بات معقداً وتتحكم فيه العلاقات الدولية سواءٌ مع ليبيا أو الدول الكبرى مع بعضها البعض. وهذا ينسحب على جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية وأيضاً الحالة التصالحية. فلا نستغرب بأن مشروع المصالحة في ليبيا يحتاج لتصالح دولي أولاً لضمان تمكين مشروع المصالحة الوطنية بها.

يتفق الكاتب مع بعض كلام السيد خالد التومي بمقالته: “الأزمة الليبية والمصالحة الوطنية” المنشورة على موقع المعهد المصري للدراسات 3 يناير 2020، ويظل مقبولاً من جانب عندما يقول بأن مشروع المصالحة له: “دور حيوي وفعال في تحقيق الاستقرار المجتمعي بصفة عامة، واستقرار سياسي بصفة خاصة“، إلا أن الكاتب يرى بأن ما يوصلنا للاستقرار السياسي تلعب فيه العلاقات الدولية الدور الأكبر والأساسي والأبرز فيما بينها ويبقى الدور الثانوي مع ليبيا، بل إن العلاقات الدولية اليوم تكاد تكون العامل الفاعل بشكل أكبر وأوسع في الاستقرار السياسي في ليبيا، والعامل الفاعل في المصالحة الوطنية ولها نصيب الأسد في تحقيقها.

كذلك ومع أتفاق الكاتب مع ما يطرحه الباحث د. عيس اسماعيل عطية في ورقته تخص العراق بعنوان “دور المصالحة الوطنية في تفعيل السياسة الخارجية العراقية” بدورية دراسات دولية العدد 44 بأن: “المصـالحة الوطنيــة الحقيقيــة يمكــن أن تــؤدي دورا مهمـا فـي تفعيـل السياسـة الخارجيـة العراقيـة.. فإن المصالحة الوطنية وتوسيع المشاركة السياسية واستعادة العراق مكانته، ستودي دور بناء في تفعيل السياسة الخارجية العراقية“ فبالتأكيد المصالحة الداخلية في ليبيا ستكون عاملا مساعدا في تفعيل السياسة الخارجية، وهذا المسلك أطول ويستهلك الكثير من الوقت من وجهة نظر الباحث، فالمصالحة تعتبر مشوارا طويلا وتأثير المصالحة في العلاقات الدولية أقل بكثير من تأثير العلاقات الدولية على المصالحة الدولية، لذلك يرى الكاتب بأن المصالحة في العلاقات الدولية لها تأثير أقوى على المصالحة الوطنية في ليبيا، وتبقى المصالحة الوطنية عاملا مساعدا وداعما ودافعا للقوى الدولية في التصالح فيما بينها وهذا سيعود بالإصلاح في ليبيا ومن بعد المصالحة.

الصراع الدولي على الأرض الليبية:

الموقع الجيوسياسي لليبيا المتميز والذي حباها به الله يدفع للصراع الدولي على أرضها، فالحرب العالمية الثانية كانت وانتهت على أرض ليبيا، بل إن نشأت ليبيا تمت بعد تسوية دولية كانت لأمريكا الدور الأكبر في تحيد مشروع بيفن سفورزا الذي كان سيضعها تحت وصاية إيطاليا وبريطانيا وفرنسا لعشرة سنوات، واليوم ما لم تصل أمريكا وروسيا وكذلك العديد من الدول الأوروبية، إلى صياغة واضح للتفاهم بشأن تواجدها على أرض ليبيا وبحيث يكون هذا التفاهم مقبولا تقريباً من الجميع ويُحقق مصالح مشتركة، الشراكة الدولية هي الطريق للمصالحة الدولية لتنجح المصالحة الوطنية الليبية.

المصالحة الدولية:

حسب ما يطرحه شكري محمد بتاريخ 13 مارس 2020م ببحثه، بالموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والاستراتيجية، بعنوان: “مبدأ المصالحة في العلاقات الدولية” فإن المصالحة جاءت على الأساس القانوني بأن “الاتحاد ما بين البرلمانات الذي تم إنشاؤه عام 1889 والذي قام على مبدأ “التحكيم”، أي إمكانية بل وجوب ذهاب الدول نحو التحكيم من أجل حل الخلافات القائمة بينها لكن بظهور جوانب الضعف في هذه الطريقة بدأ الحديث عن المصالحة” وتظل المصالحة تحكمها القناعة التامة بالقيود الدولية التي فرضتها الظروف والتوازنات السياسية. وتظل الحدود الزمنية عامل فاعل على نهاية العمر الافتراضي لأي ضوابط دولية وخاصة عندما لا ترافقها قناعات راسخة من جميع الأطراف، العالم اليوم بدون ضوابط فتقنيات الضبط التي استمرت حتى نهاية القرن العشرين لا مكان لها اليوم. فما استطاعت القيام به أمريكا أمس لا نرى له واقع واضح اليوم، فالتوازن الذي عاشه العالم باحترام حق الفيتو والالتزام بالقانون الدولي والمعاهدات الدولية لا مكان له اليوم، فمن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بدأ التصدع في العلاقات الدولية وحاولت أمريكا أن تستفرد بسلطة القرار، فأشعلت حروب غير مبررة في العراق وأفغانستان، ودفعتها لصناعة التطرف عوضاً عن محاربته حسب ما يصرح إعلامها، ومع أنها حركت أسواق صناعة السلاح، إلا أنها لم تحقق نتائج لصالحها لا على المستوى المحلي، دافع الضرائب الأمريكي، ولا على الطرف الخارجي والممثل في الشعوب المنكوبة، واليوم وبعد سنة من بداية الحرب يصرح السيد بوتن بأن هناك أسلحة لم تدخل المعركة بعد، ومع تدخل الصين بالمعدات غير القاتلة حسب ما صرح به وزير الخارجية الأمريكية السيد بلينكن مع نظيره الصيني من أنها لن تسمح بتهديد المصالح الأمريكية، بالرغم من عدم استبعاد تقديم الصين الأسلحة المقاتلة مع أنها تدعو اليوم للحوار بين روسيا وأوكرانيا. فيظل الحوار والمصالحة هو المخرج من الأزمة الأوكرانية وغياب المصالحة سيُصعد من تدخل العسكري للصين وقد يدفع روسيا لاستخدام الأسلحة النووية.

أمريكا والمصالحة مع العالم:

بالتأكيد دور أمريكا مهم في مصالحة العالم، لأن ذلك سينعكس على مشاريع المصالحة بالكثير من بلدان العالم، وكما أسلفنا فموقع ليبيا له أهمية جيوسياسية للكثير من الدول الكبرى اليوم، ولأمريكا تحديداً لما يمثل لها من قاعدة خلفية للضفة الجنوبية للنيتو وبوابة لأفريقيا الغنية بالموارد الطبيعية والغاز، المتنازع عليه/ا، وخاصة بعد أن وضعت روسيا لها موطأ قدم بإفريقيا الوسطى وما حولها وتموقعت الفاغنر بأربعة دول منها ليبيا، ونجحت في طرد فرنسا وتحجيم دورها، ووصل عددها ما يقارب من خمسة عشر ألفاً حسب ما ذكرته “سكاي نيوز عربية”، وبعد أن ألغت واقادوقو الاتفاقية العسكرية مع فرنسا تأتي بوركينا فاسو، من يومين، وتعلن بانتهاء عمل القوة العسكرية الفرنسية “سابر”، ويعلق السيد بوتين اتفاقية نيوستارت مع أمريكا للحد من الأسلحة النووية قبل موعد انتهائها في 2026م.

تعودت السياسة الخارجية في الصين بأن يبدأ وزير الخارجية نشاطه بزيارة إفريقيا حيث تركز الصين على القوى الناعمة في تشيد البنية التحتية وعينها على الموارد المعدنية تاركةً الجوانب العسكرية و”الإرهاب” لروسيا وأمريكا، كما ويمكن أن تدخل اليابان على الخط الناعم، كما عملت الصين على نسج وتوطيد علاقتها مع العديد من الدول الإفريقية من خلال تأمين الغذاء لحوالي ثلثي سكان القارة، وبدون أن تحمل معها أو تلوح بالعصا العسكرية.

فمع انعقاد القمة الإفريقية بأديس أبابا بتاريخ 18 فبراير 2023م والذي يهتم ببندين: الأمن الغذائي، ومحاربة الإرهاب وتحضره أمريكا بوفد رفيع تقوده مساعدة وزيرة الخارجية للشؤون الإفريقية السيدة مولي فيي وعدد كبير من وكالات العون الأمريكية لمحاولة مزاحمة روسيا والصين، ويبقى السؤال أين كانت المساعدات التي تسعى إليها أمريكا اليوم بعد غياب وتجاهل لإفريقيا؟ بل ما هو غير المفهوم! كيف سهلت أو غضت الطرف عن تدخل روسيا في ليبيا؟.

تسمح روسيا أحياناً بتمكين قوات فاغنر لأجل تدعيم مساعيها للحماية السياسية والاستقرار لبعض الدول حسب وجهة نظرها عوضاً عن التدخل الحربي، وهذا قد يسهم في خلق شراكة دولية لو نهجت أمريكا في سياستها طريق المصالحة الذي سيربح فيه الجميع، التحرك لأجل الاستحواذ بالكامل على الموارد الطبيعية لإفريقيا لن يخدم أحد، بل مشاركة المصالح على المستوى الاقتصادي بالدرجة الأولى سيمنح فرصة للجميع بتشكل قوة عالمية جديدة، مشاركة، عوضاً أن تفرضها حرب عالمية نووية خاطفة تُجلس الجميع على طاولة المفاوضات.

لماذا يا أمريكا إفريقيا؟

بعد أن جاءت تحركات السعي القديم الجديد بالنسبة لروسيا والجديد للصين لغرس أقدامهما في القارة الأفريقية بعد أن وطأتها من سنين، تحركت واستيقظت أمريكا وتحديداً الإدارة الديمقراطية اليسارية الرافضة لأي ضوابط دينية مسيحية أرثوذكسية أو كونفشيوسية، والذي يختلف مع نهج الإدارة الأمريكية الجمهورية، التي ربما رأت في روسيا بتراثها المسيحي الأرثودوكسي يمينية ولذلك ترفضها الإدارة الأميركية اليسارية اللادينية.

فالسيد ترامب لم يخفي أعجابه بالسيد بوتين بل قد وسمح له بتمكين حفتر من يغزو طرابلس والسيطرة على ليبيا، إلا أن فشل حفتر في دخول طرابلس ومقاومة أحرار فبراير سمح لتركيا بتحقيق مصالحها بالاتفاقية البحرية ورد العدوان لحدود سرت بعد الاتفاقية العسكرية.

كما وإن استفزاز الصين لأمريكا من خلال تايوان وكوريا الشمالية سيصعب من الوضع ويدفع في اتجاه الصدام العسكري، إلا أن المصالحة الأمريكية بمشاركة الصين، وكذلك روسيا، سيجدد كلمات البابا فرنسيس في آذان السيد بايدن وفريق إدارته اليوم.

الخاتمة:

غياب الأخلاقيات المهنية في السياسة الدولية يقلل من قيمة الاتفاقيات الدولية وينذر بانهيار الضوابط الدبلوماسية، وقد تشعل حرب نووية ستكون مدمرة وسريعة ولكن ستعيد تشكل العالم بصيغة جديدة قد تفسح المجال للصين وربما روسيا وتقليص للدور الأمريكي إلا إذا اقتنعت بسياسة تخفيف العداء مع روسيا والصين وفتح باب مشاركة المصالح لتتحقق المصالحة الدولية وتساعد عدد الدول على العودة للاستقرار بما في ذلك بلادنا الحبيبة ليبيا.

تمسك أمريكا بعلاقات جيدة مع عدد أكبر من دول العالم، وخاصة العظمى، مبنية على المشاركة والمصالح المشتركة سيضمن لها مصالحها بشكل أفضل بكثير من سياسة التوسع والهيمنة وصب الزيت على الحرب في أوكرانيا والرفع من حدة التوتر بكوريا الشمالية وتايوان مما يسمح للاستعراضات العسكرية المقلقة من الأطراف الأخرى وقد ينتج تهديد للسلم والأمن العالميين.

والسؤال هل ستراجع أمريكا تمسكها بالهيمنة الدولية؟ وتتوقف عن عدم الإنصات لمقترحات بعض مراكز البحث الأمريكية في مشاركة الصين وروسيا في إدارة الشأن الدولي؟ وهل ستصرف النظر عن كلام البابا فرنسيس بخصوص مصالحة العالم؟ إن تجاهل أمريكا لنصائح مراكز البحث الأمريكية، والبابا سيعيق تحقيق المصالحة الدولية التي ستسهم في الاستقرار والمصالحة للعديد بين دول العالم؟ الأسابيع، وربما الشهور، القادمة ستفصح بالإجابة عن الأسئلة الصعبة اليوم!.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا