الموصل وحلب.. وتقسيم جديد للمنطقة - عين ليبيا

من إعداد: عبدالسلام الرقيعي

new-article2_20-10-2016

ينبغي في البدء الإيماء الى ان منطقة ((الشرق الأوسط وشمال افريقيا))، كانت تحظى فيما مضى بأهمية بالغة في المنظور الاستراتيجي للولايات المتحدة، باعتبار انها تقع في وسط العالم، وتمر بهما طرق التجارة العالمية ((قناة السويس، مضيق باب المندب، مضيق هرمز))، كما انها تحوي مخزوناً نفطياً هائلاً.

غير ان الحال يبدو انه لم يعد على ما كان عليه في غابر الايام، فحجم التجارة الدولية التي تهم الولايات المتحدة أضحى الآن يمر من بحر الصين ليعبر الى المحيط الهادي وصولاً الى الولايات المتحدة وكندا واميركا الجنوبية، يمر من هناك حيث تقبع دولاً واعدة في الشرق الأقصى الصين، اليابان، وباقي نمور آسيا، ماليزيا، اندونيسيا، كوريا الجنوبية، وسنغافورة، فضلا عن الهند.

اضافة الى ان النقل البحري قد قفز خطوة اخرى، بعد ان شاع استعمال السفن العملاقة ذات الحمولة الهائلة والتي باتت تجوب المحيطات، حيث انقسم نقل التجارة العالمية الى ما يشبه تجارة الجملة وتجارة القطاعي، أو إلى ما ارتأينا تسميته بالنقل المركزي والنقل الفرعي:

(نقل مركزي) تتولاه السفن العملاقة التي تنقل اعداداً مهولة من حاويات البضائع، حيث أنشأت لهذه السفن العملاقة مواني واسعة الأرصفة تستوعب تخزين تلك الاعداد من الحاويات، كما انها تمتاز بعمق المياه التي تستطيع أن ترسو بها تلك السفن العملاقة في الدول المطلة على المحيط الهندي، الاطلسي، والهادي.

(نقل فرعي) وهو الذي تقوم به سفنٌ أخرى ذات حمولة أقل، تنقل الحاويات الى مواني أخرى في الخلجان والبحار التي تكون مياه موانيها اقل غورها اقل عمقاً أو ضحلة لا يمكن للسفن العملاقة ان ترسو فيها.

ومن جهة أخرى، فإن اعتماد نقل النفط عبر الانابيب من مناطق الانتاج الى اماكن الاستهلاك، ادى الى تدني الاعتماد على نقله عن طريق السفن الناقلة للنفط ((خط نابوكم من اذربيجان الى تركيا، خط السيل الجنوبي والسيل الشمالي من روسيا الى اوروبا، خط نقل النفط من روسيا الى الصين، خطوط نقل الغاز من الجزائر وليبيا الى ايطاليا واسبانيا، خط نقل النفط من إيران الى الهند، خط نقل الغاز الاسرائيلي الى تركيا)).

وهذا ما نتج عنه فقدان اهمية المضايق والقنوات ((هرمز، باب المندب، السويس، بل حتى مضيق مالقا في اقصى الشرق الاسيوي)).

ما يتعلق بمخزون النفط في المنطقة فقد تضاءلت أهميته -على الأقل بالنسبة للولايات المتحدة- وذلك بعد اكتشاف ((النفط الصخري))، الذي ادى ليس الى اكتفاء الولايات المتحدة  ذاتياً من حاجتها للنفط فحسب، بل ادى أيضاً الى ولوجها باب التصدير، وقد سمح الكونغرس الاميركي بتصدير النفط الاميركي الذي طالما كان ممنوعاً تصديره ، كما ان المخزون الهائل للنفط في منطقة بحر قزوين وفي وسط اسيا، الذي شرع في استخراجه زاد من الكميات المعروضة، وستزداد تلك الكميات اكثر عقب الانتهاء من مد خطوط الانابيب التي تنقله من حقول الانتاج الى الموانئ التركية.

ناهيك عن دخول الطاقات المتجددة (الشمس، والرياح، وامواج المحيطات والبحور) سوق الطاقة.

اذاً اميركا ستذهب بعيداً الى الشرق الاقصى لتنبري للتصدي للعملاق القادم التنين الاصفر الصيني، ولتحد من مخاطر جمة ناشئة عن تنطع كوريا الشمالية، ستترك الشرق الاوسط لباقي الدول الاوروبية، التي لايزال الشرق الاوسط بالنسبة لها مصدراً مهماً للنفط لاسيما لكونه قريباً منها، كما ان الشرق الاوسط يعد ذو اهمية استراتيجية تتعلق بالأمن القومي بالنسبة لدول اوروبا، فضلاً عن العلاقات التاريخية التي تربط الفضاءين.

غير ان اميركا قبل ان تشرع في مغادرة الشرق الاوسط، حرصت على ترتيب اوضاعه كما تُريد، فلقد دجنت بشكل او أخر إيران، واشعلت حروباً في العراق وسوريا واليمن وليبيا. كما انها دفعت بالروس الى المنطقة عندما ورطتهم بالتدخل في سوريا في عملية استنزاف حاد للاقتصاد الروسي وتشتيت لجهود القوات المسلحة الروسية بين اوكرانيا والشرق الاوسط كما نزعم ان حرباً اخرى ستتورط فيها روسيا في وسط آسيا، وسيغوص الروس في المستنقع السوري، كما انهم سيضيعون في متاهات الشرق الاوسط سنين طويلة، وسيزداد الصراع حدة بين الروس والاوربيين في الشرق الاوسط، فضلاً عن الصراع في اوكرانيا.

ولما كانت اميركا تتبنى استراتيجية مضادة لروسيا، مؤداها تطويقا بحرب في اوكرانيا انشأت عداءً حاداً بين الروس والاوربيين، وبحرب أخرى في سوريا، وحرب ثالثة ستندلع في وسط آسيا.

وكانت تتبنى استراتيجية مماثلة مضادة لأوروبا بوضعها بين فكي كماشة، الاول متمثل في التهديد الروسي المتمثل في احتلال شبه جزيرة القرم وشرق اوكرانيا، والأخر متمثل في الفوضى وانتشار القلاقل من – هجرة غير مشروعة، ارهاب، تجارة السلاح، تجارة المخدرات… – في جنوب المتوسط.

لهذا فإن اميركا لها منظور لمن ينبغي ان يصل الى السلطة في دويلات الشرق الاوسط في المستقبل القريب.

في مقال تحت عنوان (أشواك الربيع العربي) كنا قد أشرنا فيه مبكراً الى ان ما يجري من احداث في شمال افريقيا والشرق الأوسط، ما هو الا صفحة من صفحات استراتيجية اميركية موجهة الى المنطقة مؤداها: ((نشر الفوضى تمهيداً لتقسيم المنطقة – العمل على وصول الاحزاب الاسلامية المعتدلة الى السلطة في المنطقة – إلزام مجموعات الاسلام المعتدل بمواجهة المجموعات الاسلامية المتطرفة))، وذلك على النحو التالي:

1- نشر الفوضى وعدم الاستقرار توطئةً لإعادة تقسيم المنطقة الى دويلات قزمية تقوم على اسس عرقية ودينية وطائفية، باعتبار ان التقسيم الذي جاءت به اتفاقية “سايكس بيكو” منذ قرن من الزمان، لم يتعداه الزمن فحسب، بل لأنه كان تقسيماً معدوم الأساس، وهو مجرد رسم لخطوط الحدود على خرائط ورقية، ويرى الاستراتيجيون الاميركيون أن مخرجات تلك المعاهدة هي التي اوجدت القلاقل في المنطقة، حيث انها وضعت بشر من قوميات واعراق متعددة، ومن ديانات وطوائف مختلفة، في إطار دولة واحدة. مثل دولة العراق التي تضم عرب وكرد وترك، وتضم ايضاً مسلمين شيعة وسنة، ومسيحيين وأزيديين وغيرهم.

وقد تكون النهاية العملية لاتفاقية “سايكس بيكو” هو الصراع المحتدم الآن في الموصل وحلب، الذي يُعد ايضاً البداية للتقسيم الجديد للمنطقة وفقاً للأسس المشار اليها أعلاه.

2- العمل على وصول، ما يُسمى بالإسلام المعتدل، الى السلطة في الدول الاسلامية في شمال افريقيا والشرق الاوسط، لاحتواء ما يسمونه بالطفرة الاسلامية، ولسد الطريق في وجه الاسلام المتطرف.

ولابد ان تُدجن المجموعات السياسية التي توصف بالإسلامية المعتدلة وتعلن قبولها بشروط اللعبة الديمقراطية، ولكي تثبت تلك الاحزاب التي تمثل هذه المجموعات انها ليس لديها مفهوماً متطرفاً للإسلام، عليها ان تقبل في عضويتها مواطنين من ديانات أخرى!، وأن تتضمن قوائم ترشيحات تلك الاحزاب للسلطة التشريعية مواطنين من تلك الديانات. ((مثلما قام به الاخوان المسلمون في مصر عندما اضافوا اقباط الى قوائمهم في عهد محمد مرسي، ومثلما فعل الاخوان المسلمون في الاردن في الانتخابات التشريعية التي اجريت شهر سبتمبر 2016)).

3- تتولى مجموعات الاسلام المعتدل التصدي للمجموعات الاسلامية المتطرفة سواءً بالمواجهة الفكرية ام القتالية، على اساس عدم القضاء نهائياً على المجموعات الاسلامية لكي يستمر الصراع بين الطرفين في المنطقة، بحيث يتأتى إلهاء تلك المجموعات المتطرفة بقتال متواتر يجعل مسرح الحرب بعيداً عن الولايات المتحدة، وبما يؤدي الى الحؤول دون قيامها بعمليات ارهابية خطيرة في الولايات المتحدة.

غني عن القول ان هذه الاستراتيجية مؤسسة على فرضية تفعيل الصراع في المنطقة ليكون ((اسلامي – اسلامي))، سواء كان ذلك الصراع بين المجموعات الاسلامية المعتدلة والمجموعات الاسلامية المتطرفة، أم كان صرع بين الاسلاميين الشيعة والاسلاميين السنة.

على ألا يحول ذلك دون تفعيل صراعات أخرى على اساس اثني عند الضرورة بين اعراق عدة ((عرب، فرس، اكراد، وأتراك… الخ)).

فيما يُجَمَعُ مسيحيي المنطقة بمختلف طوائفهم في لبنان.

هذه هي ترتيبات اميركا للشرق الاوسط، دويلات قزمية وفوضى وقلاقل وارهاب وهجرة غير مشروعة وتجارة مخدرات، ووصول مرتقب لمجموعات اسلامية الى السلطة.

فيما سيقام توازن القوى فيه على ثلاثة اثافي، إيران، تركيا، واسرائيل. وستكون كل من روسيا اوروبا الطرف المشرف على هذا التوازن.

كما ستقوم روسيا واوروبا بتقاسم مهام حماية، الدويلات القزمية الناشئة “المحميات”، من تغول احدى القوى الثلاث.

روسيا رُغم تنافخها فإن شأنها شأن اوروبا لا تعدو كونها ترس من تروس آلة استراتيجية ضخمة تُديرها الولايات المتحدة الأميركية.

ولعله من المجدي ان نُعيد التذكير بأن ملامح التطبيق العملي لتقسيم المنطقة وفق اتفاق جديد يُقبر اتفاق “سايكس بيكو”، تكون قد لاحت منذ بدء القتال في حلب والموصل، وما كان سراً منذ أشهر سيصبح مذاعاً بعد حين.

((وسيأتيك بالأخبار من لم تزودِ))



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا