النضج السياسي خارج السلطة.. “امتى شفت الشمس آخر مرة” - عين ليبيا

من إعداد: د. أحمد معيوف

يظهر أن ذاكرتنا الليبية سريعة النسيان، فهناك مناسبات عدة تستحق من أن نتذكرها، وأن نكرم رجالاتها، إلا أننا في غفلة كاملة عنها، يحضرني هنا ما كتبه السيد حسن الأمين في الذكرى الثانية لوفاة المناضل الحقوقي المرحوم محمد بن حميدة، يقول حسن الامين “يبدو ان الأحداث المفجعة التي يمر بها الوطن قد انستنا ذكري رحيل رجل رائع ومناضل من الطراز الأول، والذي حلت الذكري الثانية لرحيله منذ ايام. انه المناضل محمد بن حميده الذي غادرنا وهو يحلم بوطن يتسع للجميع، وطن يسوده الأمن والرخاء وينعم شعبه بالحرية، الي جنة الخلد يا محمد، ومشروع الوطن الذي عملت من أجله سيتحقق باذن الله (وان طالت المعاناة)”.

لا اذكر فيما اذكر ان تحدثنا عن مناضلينا الذين غادرونا وهم جميعا يحلمون بوطن يتسع للجميع لا يقصي احد ولا يسوده رأي واحد ينعم فيه شعبه بالحرية في اطار قانون يحمي هذه الحريات ويدافع عنها. لا اذكر اننا كتبا في ذكرى رحيل المرحوم منصور رشيد الكيخيا الذي تأمرت عليه الحكومة المصرية، والتي ومن المفارقات المؤلمة انها كانت تستضيف حينها المؤتمر السنوي للرابطة العربية لحقوق الانسان، وقدمته “هدية” لنظام القدافي الذي غيبه كما غيب الكثيرين من معارضيه في السابق. ومن قبله جاب الله مطر الذي ايضا كان ضحية مؤمرة المخابرات المصرية مع نظام القذافي، انتهت بتغييبه في سجون “النظام الجماهيري البديع”. والدكتور الوديع المرحوم عمرو النامي خريج كامبردج وزميل النيهوم في جامعة بنغازي، الذي قال فيه الدكتور المرحوم عمر التومي الشيباني رئيس الجامعة الليبية الاسبق “النامي رجل صلب لم يخضع يوما ولم ينحني”، وقال فيه المؤرخ  والسياسي الليبي، وأخر وزير للتعليم في النظام الملكي السيد مصطفي بعيو “يجب ان نعرف اننا نتحدث عن خير الرجال في ليبيا اليوم”، وقال فيه المفكر الكويتي الدكتور عبد الله النفيسي “إن الدنيا لا تساوي بعرة كبش إن لم يعطها معنى رجال أمثالك”. والمرحوم محمد مصطفى بن رمضان الكاتب والإعلامي، الذي هاجر بلاده خوفاً من بطش القذافي، وعمل في عدة مجالات إعلامية انتهت به في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية في لندن، وانهى القذافي حياته غيلة امام مسجد لندن عقب صلاة جمعة، ومن بعده المحامي والحقوقي محمود بن نافع الذي اشتهر بقوله “اذا كانت هناك ثمة حرية يتكلم عنها القذافي، فهي حريته المطلقة، في اهدار حقوق المواطن الليبي، وانتهاك حرياته، الاساسية والسياسية” والكثيرين غيرهم اللذين لا يتسع المجال للحديث عنهم. هؤلا العظماء من رجالات ليبيا كانو اعداء القذافي، وبالتالي عاداهم مصطفي الزائدي ومن على شاكلته، فأين مصطفي الزائدي من هؤلاء؟!!!….

لقد اعترفت اللجان الثورية بعملية التصفيات التي تقوم بها في حق المعارضين في الخارج (والداخل)، اذا صرح السيد موسى كوسة في مقابلة مع صحيفة التايمز اللندنية بتاريخ 10 يونيو 1980 بأن اللجان الثورية هي التي نفذت اغتيال محمد رمضان ومحمود نافع مؤكدا أن التصفيات ستتواصل على الساحة البريطانية. كما صادقت اللجان الثورية، بتحريض من معمر القذافي، في ملتقياتها على برنامج التصفيات الجسدية، وزرعت العملاء في مختلفة مدن العالم لملاحقة كل من له موقف معارض. وكانت التعليمات تقول: إذا لم تستطيعوا قتل رؤوس المعارضة فاقتلوا كل من ينتقد النظام ولا يرغب في العودة الى الجماهيرية. 

حددت مهام اللجان الثورية في بنود رئيسية ابرزها:

  • تحريض الجماهير على ممارسة السلطة
  • ترسيخ سلطة الشعب.
  • ممارسة الرقابة الثورية.
  • تحريك المؤتمرات الشعبية.
  • ترشيد اللجان الشعبية وأمانات المؤتمرات .
  • حماية ثورة الفاتح العظيمة والدفاع عنها والدعاية لها.

قد تكون هذه المهام مشروعة لتنظيم سياسي يسعى الى تحقيق اهذاف، نفترض جدلا، انها لصالح الشعب كما يرد في بياناتهم. لكن السؤال: هل كان يتم هذا عن طريق مشروع على ارضية تتلاقح فيها المشاريع والاراء المختلفة؟ اما يلزم تحقيقه تكميم كل رأي مخالف وقتل كل معارض؟ اجابة هذين السؤالين يبين بجلاء ووضوح لماذا عارض الكثيرون من الناشطين “توجهات النظام الجماهيري البديع”، ولماذا كانت هناك مبرارات حقيقية للانتفاض على هذا النظام حين سنحت الفرصة المواتية التي يحلو لانصار “النظام الجماهيري البديع” ان ينعتها بالمؤمرة، ويرى المنتفضين انها ثورة حقيقية على نظام استبدادي اعاق حركة المجتمع وسحب البلاد والمواطن الى هوة التخلف، ويرو ان اعداء الثورة قد استطاعوا سرقتها، وان دخول النتو عليها رغم دعمه الذي لم تكن لتنجح لو لم يتدجل لم يكن بيد من قاموا بها، بل كان لحسابات تلك الدول، وما كان اصحاب المصلحة في قيام الثورة قادرين على منع الناتو من التدخل حتى لو ارادوا ذلك. فالنيتو لا يتدخل من اجل الشعوب، ناهيك عن تلاقي مصالحهم مع مصالحه، ولانهم الاكثر قدرة فقد كانت الكلمة الفصل لهم في نهاية الامر.

كلما رأيت الدكتور مصطفي الزائدي – وهو من اقطاب اللجان الثورية (بل تولى رئاستها بعد موت المجدوب) في احد القنوات او الجرائد الالكترونية او سمعت اسمه، يتبادر الى دهني شخص عزيز لم اعرفه الا في العالم الافتراضي هو المرحوم محمد بن حميدة، الذي بدأت به هذه المقال، وطبعا علاقة بن حميدة في سجالاته الطويلة مع الزائدي وتعريته ملئت اهم المواقع الليبية على الانترنيت في العقد الاول من القرن الواحد والعشرين، واقصد موقع ليبيا وطننا الذي اسسه واشرف عليه الدكتور الفاضل ابرهيم أغنيوة، وموقع ليبيا المستقبل لصاحبه الرائع محمد الامين واتذكر حكاية الطالبين السيد الهادي الغرياني والسيد أحمد شلادي  اللذين نال منهما مصطفي الزائدي في المانيا ما ناله منهم. ولولا القدر، ما كان لهما ان يخرجا من ذلك البيت الذي عرف ببيت الشعب بمدينة بون الالمانية، في حين انه كان وكر من اوكار مجرمي وسفاكي اللجان الثورية التي ذهبت غير مأسوف عليها يمكن الاطلاع على قصة هذين الشابين كمثالا لممارسات اللجات الثورية في ثمنينات القرن المنصرم على الرابط (مصطفي الزائدي وجريمته في المانيا)وكذلك الرابط (كن كما عرفناك “أسدا” يازائدي!).

طبعا السيد مصطفى الزائدي لم يقر بما اذين به، رغم الكثير من القرئن على فعلته، بل لعل التوضيح الذي قدمه المرحوم بن حميدة في مقاله (مصطفى الزائدي لا مفر من الاعتراف!) لم يترك لمصطفي الزائدي اي مساحة للمراوغة في تفنيد ما ادين به. لقد انتهت قضية مصطفي الزئدي حينها عن طريق عملية الابتزاز التي مارسها النظام “الجماهيري البديع”، والتي تم بموجبها القرار الالماني، السياسي (وليس القضائي)، بترحيل مجرمي “بيت الشعب”، ومبادلتهم بالرهائن الألمان السبعة الذين أحتجزتهم اللجان الثورية، وعلّلت السلطات السياسة الالمانية بأن طرد مصطفى الزائدي أملته مصلحة ألمانيا العُليا.

ادين لمصطفي الزائدي بدخولي الى عالم الكتابة، فقد كتبت اول مقالة لي في نهاية ديسمبر العالم 2008، وقد كانت بعنوان (الزائدي : قل يا ايها الكافرون!!..)، وقد كتبتها باسم مستعار هو اميس انتمورا، استعملته طيلة الفترة حتى انبلاج ثورة 17 فبراير كان سبب المقالة هو ذلك السجال الذي دار بين المرحوم محمد بن حميدة والدكتور مصطفى الزائدي حول احداث بيت الشعب في بون. وكتبت ما كتبت حينها عرضا وتوضيحا لما كنت اراه فساد في منظومة الحكم واختزال الوطن في شخص، وتكون تنظيم يعبد ذلك الشخص ويتبنا اراءه ونظرياته كانها قدس من الاقداس، ويستميت في الدفاع عنها، ويرتكب من المؤبقات ما لا حصر لها من اجل حمايتها والتنظير لها، رغم ان هذا التوجه يصب في مصلحة شخص على حساب مصلحة امة كاملة، ويرى كل مخالف هو عدو وليس صاحب حق في خلافه. وكعادة التبرير التي يلجاء اليها عديمي الحجة من المؤدلجين، رد مصطفى الزائدي علي مقال بمقال عنونه (إلى بن حميدة.. وانتمورا وآخرين..) لكن ربما اهم ما جاء في مقاله الاتهامات المستهلكة والمتكررة لكل مخالف، فمن يخالف الانظمة الحاكمة في دولنا هو عميل للامريكان ان كان نظام الدولة “تقدمي !!!…. ” كالنظام “الجماهيري البديع”  وعميل للشيوعية ان كان النظام الحاكم “رجعي!”.

ما اعادني اليوم الى تناول السيد الدكتور مصطفي الزائدي هو اللقاء التلفزيوني على قناة ليبيا روحها الوطن في إستظافة الاعلامي نبيل الحاج في برنامجه اكثر. وساركز هنا على بعض النقاط التي وردت في حديثه واجاباته على اسئلة مقدم البرنامج.

لقد ابتداء جوابه بعدم اعتقاده في نجاح المؤتمر الجامع الذي يسعى اليه السيد غسان سلامة (وربما اتفق معه في هذا الامر مع بعض التحفظ بسبب طبيعتي المتفائلة)، والسبب كما يراه ان البعثة الاممية تسعي الى تقسيم السلطة بين أطراف، يرى مصطفى الزائدي، انها ليست جديرة بممارسة السلطة، ويرد فشل الصخيرات الى نفس السبب ومازال السيد مصطفى يعتقد بان اقدر الاشخاص على ادارة الدولة هم أؤلائك الذين لا زالوا يقبعون في السجون من امثال المحمودي ودوردة والسنوسي وغيرهم من رجال النظام السابق، فهو لا زال يعتقد بان انصار سبتمبر هم الجديرين بالحكم دون سواهم، فليبيا لم تلد غيرهم او عبيد على نمطهم. ورغم انه اصبح يتحدث عن انصار فبراير بلغة تعني قبوله لهذا التيار بعد ان وصل الى واقع يجبره على هذا الامر، وهذا في حد ذاته نضوج يحسب له. وفي اعتقاده ان نجاح المؤتمر الجامع يعتمد على نوعية المشاركين، والتي حصرها في أنصار فبراير، وانصار سبتمبر، والقوات المسلحة، والتشكيلات المسلحة، والقبائل، واخيرا لا مانع ان يشارك في المؤتمر “النخبة” من المثقفين والاكادميين ويدين السيد مصطفى الاقصاء ويعزل في رأيه القضايا الرئيسية عن الاشخاص، ويعتبر نفسه ضد الشيطنة، الا انه يعود فيطالب باقصاء التيارات عابرة الحدود كالتيار الاسلامي او القومي، وتناسى انه كان اداة قتل في نظام فاشي. ولقد تجاوز في لقائه التلفزيوني هذا، ولم يعد يستعمل لغة عدد اللاجيئن، فقد عاهدونا انصار سبتمبر بتضخيم هذا الامر وابرازاه على انه يفوق المليونين، لقد اعترف السيد مصطفي اوصرح جدلا بان المهجرين لا يتجاوزا عددهم النصف مليون، في حين كانوا من اجل المتاجرة بكبر العدد يصرون على ان المهجرين يزيدوا عن المليونين.

والاسئلة التي تفرض نفسها: هل نسى السيد مصطفى انه كان يعتبر كل خصوم النظام الجماهيري عملاء لامريكا؟ هل تناسى ان تنظيمه الثوري ونظامه الجماهيري كانوا ينظرون الى كل من لا يعتقد في اطروحات ذلك النظام عدو، ويصنفونه في قائمة الخيانة، ويصبغون عليه صفة العمالة، ويطالبون بل يسعون الى استأصاله؟!.

استطيع ان اقول ان خطاب الزئدي تبين فيه نضج سياسي لكنه نضج جاء متأخر، ذلك ان هذا النضج لم يتم من خلال الممارسة السياسية التي امتهنها في اكثر من ثلاثة عقود، عذب فيها من عذب، وقتل فيها من قتل، واهان فيها من اهان، رغم انه لم يكن في مركز امني قد يبرر ممارساته، بل جاء هذا النضوج وهو خارج السلطة، وارجوا ان لا يكون بدافع العودة اليها وربما نسى او تناسى انه صاحب مقولة “امتى شفت الشمس آخر مرة”، لاناس ابرياء ربما لم يلتقوا به في اي مناسبة، ولم تكن له عدوة باي منهم، الا ان القدر جعلهم ضحاياه في لحظة “شبق ثوري” تحت مظلة نظام دموي.

واخيرا، اهني مصطفى الزئدي وكل “انصار سبتمبر” الذين نضجوا وهم خارج السلطة على هذا النضوج المتأخر، الذي امل ان يساهم في حل جزء من مشكل الوطن الذي لا شك هم كانوا اول من ساهم في ما آل اليه، وانصح تنظيمهم الذي يعرف بالحركة الشعبية ان يختاروا امين لم يتورط في قضايا تعتبر جنائية حتى يكون لهم مصداقية في الشارع، وان يتخلوا عن صفة “الوطنية” التي لم تكن في يوم من الايام ذات قيمة في تنظيمهم الثوري. انا اؤمن تماما بان اهم اهذاف التغيير الذي حدث وايدناه ونؤيده في فبراير 2011 هو عدم اقصاء اي طيف سياسي، على ان هذا لا يعني شهادة براءة لمن اجرم بسبب المظلة التي اتاحها القدر له في الطيف الذي ينتمي اليه، لهذا فالمشاركة السياسية في دولة القانون يجب ان تستبعد كل المجرمين الذين اجرموا في حق الانسان الليبي.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا