الهند في التاريخ الإسلامي (1) - عين ليبيا

من إعداد: د. محمود المعلول

الحقيقة التي لا يمكن إنكارها لأي باحث في تاريخ العلاقات الدولية بين الشعوب إن علاقات العرب مع الهند كانت علاقات تاريخية وثيقة منذ أقدم العصور، وللأسف فإن العالم العربي لم يستفد من هذه العلاقة التي يمكن أن توظف لصالح العرب والمسلمين ، أما على المستوى البحثي فإن روابط الهند مع العالم العربي والإسلامي لم تحظ بالدراسة الوافية والكافية خاصة من الباحثين العرب ، وتكاد المكتبات العربية تخلو من أي مؤلف في هذا المجال ، وسأحاول في هذه الورقة أن أسلط الضوء على أحد الجوانب المهمة من هذه العلاقات ، ألا وهو التواصل الحضاري بين الأمة العربية والهند.

إن العلاقات بين الجانبين كانت قوية سواء في مجال الثقافة والتبادل الحضاري أو حتى في المجالات الأخرى، فالأمم تأخذ من بعضها وتتأثر بثقافات بعضها البعض نتيجة للتجاور والتجارة، وحتى العلاقات بين الأمم والشعوب إن لم يكن لها سند في الماضي يعززها ويقويها كانت ضعيفة هشة، والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم كان موقفه من الإمبراطوريات الكبرى والأمم ذات الحضارات، هو أنه دعا حكامها إلى الدخول في الإسلام وحملهم المسؤولية أمام شعوبهم ، وبأنهم إذا دخلوا في الإسلام فإن هذه الشعوب سوف تصلها الدعوة الإسلامية ، فعند مخاطبته لقيصر الروم وصفه بعظيم الروم ، لأن الناس على دين ملوكهم ، أما إذا رفض هؤلاء الحكام الدعوة الإسلامية ومنعوا الدعاة من الوصول إلى هذه الشعوب ، فإنهم يتحملون الوزر الأكبر في منع شعوبهم من الدخول في الدين الجديد ، وتطبيقاً لذلك أرسل الرسول سفراء كثيرين إلى مختلف البلدان يحملون رسالة الإسلام ، ويبشرون البشرية بمرحلة جديدة جاء بها الإسلام ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.

تجدر الإشارة إلى أمر مهم وهو أن الإسلام انتشر في الهند عن طريق التجارة مع العالم الإسلامي والفتوحات التي قام بها المسلمون انطلاقاً من الباكستان وأفغانستان ، وعند مجيء العرب إلى الهند لم ينظر إليهم الهنود كمستعمرين بل رحبوا بهم ، وكذلك فإن العرب المسلمين سواء كانوا فاتحين أو تجار أو رحالة أو دعاة لم يؤمنوا بنظرية تفوق الأجناس التي أمن بها الأوروبيون ، فنجد التاجر والرحالة العربي المسلم يستقر بالهند ويتزوج بها ، وينجب الأبناء كما فعل الرحالة الشهير ابن بطوطة ( 703 -779 هـ / 1304 -1377 م ) ، وتوجد عائلات هندية في منطقة مليبار وغيرها من المناطق الهندية تنحدر من أصول عربية ، كانت لها مواقف مشرفة في الكفاح ضد المستعمرين البرتغاليين والهولنديين والإنجليز وخرج منها علماء كبار كانوا مشاعل خير وهداية في مختلف أنحاء الهند مثل (آل مخدوم. آل جفري. آل بافقية. آل بارامي ـ الفاروقي )، أما الأوروبيون فإنهم زرعوا بذور الحقد والكراهية بين مختلف الطوائف في الهند ، وذلك للإبقاء على سيطرتهم وتحكمهم بالبلاد ، ولم يندمجوا مع السكان المحليين بعكس العرب المسلمين.

قاوم السكان المحليون الهنود الأوروبيين بكل السبل ونظروا إليهم نظرة الغرباء والمستعمرين، ولم يندمجوا معهم ، أما اللغة العربية فإنها كانت هي اللغة السائدة في العالم في ذلك الوقت باعتبارها لغة العلم والتجارة والحضارة ، ومما يدل على مكانتها في الهند أن الملك البرتغالي مانويل الأول (1469 ـ 1521 م) عندما أرسل رسالة إلى الملك (ساموثيري راجـا) ملك مقاطعة كاليكـوت عن طريق الرحـالة فاسكو دي جـاما (1469 ـ 1524 م) سنة 1498 م أرسلها إليه مكتوبة باللغة العربية ، مما يؤكد عمق الصلات الحضارية بين العالم العربي والهند ، وأن هذه الصلات كانت وطيدة جداً ، وإن تلك العلاقات ازدادت صلابة ورسوخاً منذ فجر الإسلام ، فقد سافر الكثير من العلماء ، واستقروا بالهند وقاموا بالتعليم والتدريس ، فمثلاً تذكر بعض المصادر أن العالم المسلم ابن حجر الهيثمي (ت 974هـ/ 1566 م) الملقب بمفتي الحرمين جـاء إلى ولاية كيرالا بالهند ، وألقى دروساً بالمسجد الجامع في منطقة فناني ، وقد تأثر العرب بالحضارة الهندية وأخذوا منها الكثير في مختلف المجالات.

لطالما شد انتباهي وأثار الحزن في نفسي ما كنت أقرأه من أن بعض الدبلوماسيين الغربيين وخاصة الفرنسيين والألمان والإنجليز كانوا يكتبون بدقة متناهية عن البلاد التي كانوا يعملون بها كممثلين لبلدانهم ، ويألفون الكتب ذات الفائدة العظيمة ، التي تتناول تاريخ البلد وحضارته وعادات أهله ، بل أنهم يتعلمون لغة ذلك البلد ، وكان الأجدر بنا نحن العرب المسلمين أن نفعل ذلك لأن هذا الشيء كان موجوداً في حضارتنا وتراثنا ، والهند ليست غريبة عن العـالم العربي والإسلامي بل أن التاريخ الإسلامي يحفل بذكرها وذكر أهلـها وصلة العرب بهم ، وقد أنجبت هذه البلاد علماء أفذاذ فاقوا حتى العرب أنفسهم في علـوم الدين واللغـة العربية ، وكتاب نزهة الخـواطر وبهجة المسامع والنواظر للعـلامة الهندي الشريف عبد الحي بن فخر الدين الحسني (1286 ـ 1341 هـ / 1869 ـ 1922 م) حافل بذكر ذلك فقد ذكر فيه تراجم لأعيان الهند ومآثرهم وكل ما اتصل به من أخبارهم.

لقد حفل التاريخ الإسلامي بذكر بلاد الهند وأهلها وصلة العرب بهم ، واشتهرت بعض القبائل العربية في العصر الجاهلي بالتجارة مع الهند مثل قبيلة بلى من قضاعة ، كذلك كانت السيوف التي يتقاتل بها العرب في العصر الجاهلي تجلب من بلاد الهند ، وقد حفـل الشعر العربي بذكر السيف الهندي وجودته وحسن صناعته ، فكان مضرب المثل في ذلك فالثعالبي (350 ـ 429 هـ / 961 ـ 1038 م) يقول : ” إن السيف إذا كـان من صنع الهند ومن طبع اليمن فناهيك به “.

وقـد ذكر بلاد الهند وأهلها الكثير من المـؤرخين والأدبـاء العـرب مثل الجـاحظ (163 ـ 255 هـ / 780 ـ 869 م) الذي يعد من أعظم العباقرة في الحضارة الإسلامية ، فهو يقول عن الهنود : ” أن الهند قوم لهم عقول وعلم وأدب وأخلاق وعندهم علم الحساب وعلم النجوم وأسرار الطب والخرط والنجر والتصاوير والصناعات الكثيرة العجيبة….. ولهم الشطرنج…. ولهم السيوف القلعية ولهم الرقي النافذة في السموم ، ولهم غناء معجب…… ولهم ضروب الرقص والخفة ” ، ويذكر كذلك : ” إنما الأمم المذكورون من جميع الناس أربع : العرب وفارس والهند والروم ، والباقون همج وأشباه الهمج “.

إن كلام الجاحظ السابق يؤكد أن الأمة الهندية كانت أمـة ذات حضارة عظيمة وعلوم ومعارف مختلفة ، كما يفيد احترام أمه العرب لأمة الهنود ، ولازالت الأوصاف التي ذكرها موجـودة عندهم إلى اليوم فلا أظن أن هناك أمـة على وجه البسيطة تسبقهم في علم الحساب والكمبيوتر أو الرقص أو الغناء ، وكذلك الخـرط والنجر وصناعة التصاوير ، والجـاحظ نفسه كثيراً ما يستدل على سبيل المثال بقول رجـل هندي الأصل هو إبراهيم السندي فيقول : ” أخبرني إبراهيم بن السندي ” .

كذلك يذكر المؤرخ والقاضي صاعد الأندلسي (420 ـ 462 هـ / 1029 ـ 1070 م) الأمم الثمانية التي اهتمت وعنيت بالعلم ، ويذكر من بينها أمه الهنود بل أنه يجعلها في المرتبة الأولى فيقول : ” أمـا الأمة الأولى وهم الهند ، فأمة كثيرة العدد ، عظيمة القدر ، فخمة الممالك ، قد اعترف لها بالحكمة وأقر لها بالتدبير في فنون المعرفة ، جميع الممالك السالفة ، والقرون الخالية ، ولملوكهم السير الفاضلة والملكات المحمودة ، والسياسات الكاملة ” .
ويمكن القول أنه في بداية العصر العباسي كان لبعض الهنود مساهمات فعالة في الفكر العربي سواء في مجال الأدب أو العلوم الأخرى كالطب وغيره، والمتتبع للأدب العربي في العصر العباسي يجد أن علم الفصاحة والبلاغة والبيان كان من ضمن مجالات التفاعل الحضاري بين الجانبين.

تأثير الإسلام في الهند:

ارتبطت الهند منذ القدم بعلاقات وثيقة مع العالم العربي فقد دلت الكثير من النقوش والوثائق على وجود علاقات تجارية بين البلاد العربية والهند ، وأن العرب كانوا على معرفة تامة عن الهند ومناطقها وشعوبها ودياناتها ، كذلك حوت كتب التاريخ والسير الكثير من الأخبار عن علاقات العرب ببلاد الهند ، فقد ذكر المؤرخ الطبري (224 ـ 310 هـ / 839 ـ 923 م) إن أعداداً من العرب كانوا ضمن جيش كسرى أنوشروان (531 ـ 579 م) الذي وجهه إلى بلاد الهند بعد أن استولى على اليمن ، وأنه استولى على إحـدى المناطق الهندية ، وحمل منها أموالاً عظيمة وجـواهر كثيرة ، ومن المعروف أن مـولد الرسول صلى الله عليه وسلم كان في سنة (40) من سلطان كسرى أنوشروان ، كذلك يؤكـد الرحالة والمؤرخ أحمد بن عربشاه (791 ـ 854 هـ / 1389 ـ 1450 م) إن الإسلام بدأ ينتشر في سواحل الهند الغربية زمن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.

إن أعداء الإسلام ينكرون قيام علاقات بين الهند والعرب زمن الرسول ، ولكنهم يقبلون الرواية التي تذكر أن المسيحية انتشرت في الهند عـن طريق القديس (توماس) الذي توجه إلى الهند ، وأسس أول كنيسة نصرانية هناك في ساحل المليبار سنة (52 م) ، وقد بقيت هذه الكنيسة حتى القرن الخامس الميلادي ، وكانت تابعة للكنيسة الفارسية.

يؤكد بعض من المؤرخين الغربيين ومن بينهم فرنسيس دي واسترك أنه وجـد محفوراً على حـجر في مسجد يقع بولاية (كيرالا) إن المسلمين كانوا موجودين بهذه الولاية سنة 5 هـ / 627 م ، كذلك يؤكـد بعـض المؤرخـين أن ملك سرنديب ( راجـة سرنديب ) وملك مليبار أسلما سنة 40 هـ / 660 م ، ويؤكد أحد الباحثين الهنود وهو (بالا كرشنا بلاي) أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل خطـاباً إلى ملك مليبار يدعوه فيه إلى الإسلام سنة 628 م ، ولا يوجد ما يؤكد هذا الكلام في المصادر الإسلامية حتى الآن.

وتجدر الإشارة إلى أمر مهم وهـو أنه توجـد نقود فضية إسلامية نشرتها أسرة (بـاركل) في مدينة (كنور) تحمل اسم الملك الهندي (ملك أركل) ، وقد عرضت هذه النقود في المعرض الثقافي بمدينة مدراس الهندية سنة 1934 م ، وهي تدل دلالة قاطعة على الوجود الإسلامي في ساحل المليبار زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

لقد عرف العرب بلاد الهند ، وكانت العلاقات التجارية هي العلاقات السائدة بينهم فكانت علاقات ود وتسامح ، وكان العرب والمسلمون بعكس الأوربيين الذين أمنوا بنظرية تفوق الجنس الأوروبي على بقية الأجناس ، ولكن العرب المسلمون كانـوا بعكس ذلك فكان معيارهم الوحيد للأفضلية بين البشر هو التقوى والعمل الصالح ، وحتى عندما فتحوا البلدان كانت دعوتهم وسيرتهم الحسنة هي التي تسبقهم إلى الشعوب المغلوبة والمظلومة فتساهم في الفتح ، فهم كانوا فاتحين للقلوب بالمحبة والرحمة والأسوة الحسنة قبل أن يكونوا فاتحي بلاد بالجيوش والسلاح ، وتشهد معاركهم التي خاضوها مع أعدائهم على أنهم كانوا أقل عدداً منهم ، ولكن كانوا متفوقين عليهم حضارياً بالمبادئ السامية التي كانوا يحملونها معهم ، انظر إلى قول سفير سعد بن أبي وقاص (599 ـ 675 م) ربعي بن عامر إلى رستم قبيل معركة القادسية : ” إن الله ابتعتنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام “.

فهذا الكلام يدل على أن المسلمين كانوا حملة رسالة عظيمة وأمانة وحضارة ، ولذلك سموا انتصارهم على أعدائهم بالفتح ، وعندما دخل الإسلام إلى الهند تغيرت هذه البلاد ونعمت بالخير والمحبة بين أبنائها وبين مختلف طوائفها ، وأزدهر العلم في ربوعها وأزداد اتصالها بالعـالم الإسلامي فالمؤرخـان القلقشندي ( 756 ـ 821 هـ / 1355 ـ 1418 م ) في كتابه صبح الأعشى في صناعة الإنشاء ، والمـؤرخ تقي الـدين المقـريزي ( 766 ـ 845 هـ / 1365 ـ 1441 م ) في كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ، يذكران أنه كانت بمدينة دلهي في عهد سلطان الهند المسلم محمـد تغلق شاة (725 ـ 752 هـ / 1324 ـ 1351 م) حـوالي ألف مدرسة ( 1.000 ) للحنفية وحـدها ، ونحـو (70) مـارستان أي [مستشفى أو داراً للشفاء] ، كل ذلك كان بفضل الإسلام الذي حول هذه البلاد إلى مثابة للعلم والحضارة ، وحول أهلها إلى طلبة للعلم.

وصل الإسلام إلى الهند كما تذكر بعض المراجـع بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مباشرة عن طريق الدعاة والرحالة والمسافرين والتجار ، ويبلغ عـدد المسلمين في الهند اليوم حسب الإحصاءات الرسمية الهندية حـوالي (138.2) مليون مسلم ، وهذا العدد هو أكبر أقلية للمسلمين في العالم ، يعيشون أوضاعاً سيئة من التضييق عليهم ، وفقدانهم الكثير من حقوقهم.

وهناك من يؤكد أن عدد المسلمين يفوق ذلك بكثير ، وهو حوالي ( 200 ) مليون مسلم ، وهم بذلك يعتبرون ثاني تجمع إسلامي في العالم بعد إندونيسيا ، وأن السلطات الهندية تحاول دائماً تقليل عدد المسلمين خوفاً من ازدياد النفوذ الإسلامي ، ومن الناحية المذهبية فإن المسلمين الهنود يتبعون المذهب الحنفي.

أما المسلمون في الجنوب الهندي فالأغلبية منهم من المتعلمين والأغنياء والتجار لأنهم لم يتأثروا بعملية التقسيم سنة 1947 م ، وهكذا فإنه مما لا ينكره أحد أنه عند مجيء الإسلام إلى الهند جاء بثقافة وحضارة ، وقد شهدت القرون الوسطى نوعاً من الانسجام والاندماج والتوافق بين الثقافة الإسلامية والهندية ، مما أدى إلى ظهور ثقافة مشتركة لازالت قائمة حتى اليوم.
والله يصلح أحوالنا.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا