انتخابات رئيس الدولة… هواجس غير مبررة - عين ليبيا

من إعداد: د. يونس فنوش

أثارت فكرة انتخاب رئيس الدولة انتخاباً مباشراً من الشعب، وهي الفكرة التي تبنتها رؤية لجنة فبراير في مقترح تعديل الإعلان الدستوري، الكثير من التعليق والنقد، والكثير من التأويلات التي ذهبت مذاهب شتى، ليست مبررة مطلقاً ، بل بعضها مرفوض من حيث المبدأ أساساً.

وكان من أبرز التعليقات التي ذكرت في هذا الصدد أن انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب، على مستوى ليبيا كلها، سوف يؤدي بالضرورة إلى حتمية أن يكون الرئيس من المنطقة الغربية، بحكم أن أغلبية السكان يوجدون في هذه المنطقة، وأن نسبتهم العددية تكفل لهم في جميع الأحوال الأغلبية المؤكدة مقابل مجموع سكان المنطقتين الأخريين: برقة وطرابلس.

وإني أجد في هذا الكلام توغلاً في الانجرار نحو هاوية الجهوية التي أخذنا ننجر إليها منذ ما قبل انتخابات المؤتمر الوطني، عندما ارتفعت تلك الأصوات التي تطالب بما سمته (عدالة توزيع المقاعد)، احتجاجاً على أن توزيع المقاعد سوف يؤدي حتماً إلى تمتع أهل طرابلس بالأغلبية المطلقة، وكانت تلك الفكرة هي المنطلق الذي أدى بنا إلى الوقوع في تلك الورطة التاريخية التي ورطنا فيها المجلس الوطني الانتقالي، أولاً بالحديث عن لجنة وضع مشروع الدستور، وتكوينها على غرار لجنة الستين التي وضعت دستور الاستقلال سنة 1951، بمعنى تكوينها بنسبة متماثلة بين أقاليم ليبيا الثلاثة (طرابلس وبرقة وفزان)، بواقع عشرين عضوا عن كل إقليم، ثم بجعل تكوين هذه اللجنة يتم بطريق الانتخاب، لا بطريق التعيين.

وقد أدت بنا هذه الفكرة إلى بلوغ حالة من العجز عن تخيل ليبيا واحدة موحدة، غير مقسمة إلى ثلاثة أقسام، وذلك تحت تأثير الانعكاسات السلبية للإدارة المركزية، التي ظلت تحتكر وتركز البلاد كلها: مؤسساتها، ومشروعاتها وإداراتها في مكان واحد هو طرابلس، على نحو أدى إلى تزايد شعور المواطنين في مختلف أنحاء البلاد بما يسمى التهميش والإهمال والظلم..

وها نحن أولاء نشاهد كيف أن هذه الحالة انعكست بدورها على فكرة انتخاب رئيس الدولة التي لم تكن واردة في المرحلة الماضية، وأثارتها مقترحات لجنة فبراير لتعديل الإعلان الدستوري، إذ أخذت ترتفع أصوات ترفض هذه الفكرة، مبررة رفضها بأن انتخاب رئيس الدولة بناء على المعيار السكاني، سوف يفرض حتماً أن يكون هذا الرئيس من المنطقة الغربية، لأن أغلبية السكان هم من تلك المنطقة.. وهذه فكرة أرى أنها فكرة ساذجة وغير موضوعية على الإطلاق، فأنا لا أستطيع أن أسلم بأن المواطنين، عندما يتجهون لانتخاب رئيس الدولة، سوف يختارون هذا الرئيس أو ذاك، فقط لأنه (طرابلسي) أو (برقاوي) أو (فزاني)، ببساطة لأني أعرف وأدرك أن هذا الاختيار سيكون اختياراً سياسياً بكل معنى الكلمة، وأن المعيار الذي سوف يتحكم فيه، سيكون معيار ما يتمتع به شخص المرشح من مؤهلات وكفاءة وخبرة وسمعة في كل أنحاء الوطن. وإني واثق من أن مواطنينا قد بات لديهم من الوعي، بفضل ما اكتسبوه من خبرة، وإن كانت سلبية، خلال السنوات الثلاث التي مرت من عمر ثورة فبراير، ما يؤهلهم لأن يبنوا اختيارهم على معيار الوطنية والقدرة والكفاءة، وسوف يختارون من يعرفون فيه هذه الصفات، من أي جهة من جهات الوطن، أو أي قبيلة من قبائله، كان.

وإني أقول هذا الكلام لا من منطلق عصبية أو قناعة مسبقة أصر عليها، ولكن من منطلق خبرة عملية مباشرة، أثبتت لي أن عوامل التقارب الفكري والسياسي بين أبناء الوطن، تسمو وتتغلب على كل عوامل قربى الدم والعصبية القبلية والعشائرية والجهوية.. وإني لمست ذلك من خلال تجربتي خلال السنوات الثلاث التي مرت من حياة ثورة فبراير، وهي تجربة أتاحت لي التعامل المباشر مع إخوة وأصدقاء من مختلف القبائل والجهات، وأكدت لي أننا نتقارب في وجهات النظر والرؤى حول ما نراه مصلحة الوطن العليا والاستراتيجية، وأن عامل الجغرافيا أو الجهة أو العصبية القبلية ليس له أي أثر في اختياراتنا السياسية ومواقفنا الفكرية.

وهذا ما أنا واثق أنه سوف يحدث إذا ما واجهنا تجربة انتخاب رئيس الدولة، فسوف نختار المرشح الذي نراه الأقدر والأنسب والأكثر جدارة وكفاءة، ولن نلتفت إلى كونه من (طرابلس) أو من (برقة) أو من (فزان).. وأنا واثق من أن سكان هذه المناطق سوف ينقسمون ويتفرقون حسب قناعاتهم الفكرية والسياسية، فتختلف اختيارات سكان (برقة) كما تختلف اختيارات سكان (طرابلس)، حسب اختلاف تلك القناعات والرؤى..



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا