اهتمام الفاروق بالعلم وحثه على التعلم - عين ليبيا

من إعداد: د. علي الصلابي

العلم من أهم مقوِّمات التَّمكين للأمَّة الإِسلاميَّة؛ لأنَّه من المستحيل أن يمكِّن الله تعالى لأمَّةٍ جاهلةٍ، متخلِّفةٍ عن ركاب العلم، وإِنَّ النَّاظر إِلى القران الكريم ليتراءى له في وضوحٍ: أنه زاخرٌ بالآيات؛ التي ترفع من شأن العلم، وتحثُّ على طلبه، وتحصيله، وإِنَّ أوَّل ايةٍ من كتاب الله تعالى تأمر بالعلم، والقراءة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *} [العلق: 1]، وكذلك يجعل القران الكريم العلم مقابلاً للكفر الَّذي هو جهلٌ، وضلالٌ، وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ*} [الزمر: 9].

وإِنَّ الشيء الوحيد الَّذي أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطلب منه الزِّيادة هو العلم، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا *} طه: 114] وقد فهم الصَّحابة الكرام: أنَّ العلم، والفقه في الدِّين من أسباب جلب النَّصر، والعون، والتأييد الإِلهي، لذلك حرصوا على التفقُّه في الدِّين، وتعلُّم كتاب الله، وسنَّة رسوله، وكان طلبهم للعلم لله سبحانه وتعالى، وحرصوا على معرفة الدَّليل في الأحكام، وأيقنوا بأنَّه لا بدَّ في العلم من العمل، وإِلا نزع الله منه البركة، فقد تعلَّم الصَّحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءه: «اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يستجاب لها»(عاشور،1998، ص140).

وقد شهدت الأمَّة للفاروق ـ رضي الله عنه ـ بغزارة العلم وبأنَّه فقيهٌ من فقهاء الأمَّة في الصَّدر الأوَّل بلا منازعٍ، فقد عرف بعمق الفهم، والقدرة على التَّحليل، والبراعة في الاستنباط والاستنتاج، وهذا ما أهَّله ـ بعد توفيق الله تعالى ـ لتلك المكانة المرموقة، ولقد أصبح عمر فقيه المسلمين بعد أن الت إِليه الخلافة، فأرسى باجتهاداته قواعد العدالة كما فهمها من جوهر الإِسلام، وحقيقته.

وقد كان رضي الله عنه في مقدِّمة الفقهاء من الصَّحابة، وقد أشاد السَّلف الصَّالح بعلمه، ودرايته، ومعرفته الدَّقيقة بالأحكام الشَّرعية، وكان رضي الله عنه يحتاط في أخذ الحديث ويهتمُّ بمذاكرة الصَّحابة في العلم، ويسأل الصَّحابة عن المسائل الَّتي لم يتعلَّمها من رسول الله، وله أقوال في الحثِّ على طلب العلم، وتتبُّع رعيته بالتَّوجيه والتَّعلُّم، وجعل من المدينة داراً للفقه، والفتوى، وأصبحت مدرسةً يتخرَّج فيها الولاة، والقضاة، وأعدَّ مجموعةً خيِّرةً من الصَّحابة الكرام قادوا المؤسَّسات العلميَّة (المساجد) في حركة الفتوح، فقاموا بتربية وتعليم الشُّعوب المفتوحة على كتاب الله، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ووضع النَّواة الأولى في تأسيس المدارس العلميَّة الَّتي أثَّرت في الشُّعوب الإِسلاميَّة كمدرسة البصرة، والكوفة، والشَّام، وطوَّر المدرسة المدنيَّة والمكيَّة.

ـ احتياطه في أخذ الحديث، وطلبه للتثبُّت:

استأذن أبو موسى الأشعري في الدُّخول على عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ فلم يؤذن له ـ وكأنَّه كان مشغولاً ـ فرجع أبو موسى، ففرغ عمر، فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ؟ ائذنوا له، قيل: قد رجع، فدعاه فقال: كنا نؤمر بذلك، فقال: تأتيني على ذلك بالبيِّنة، فانطلق إِلى مجالس الأنصار، فسألهم، فقالوا: لا يشهد لك على هذا إِلا أصغرنا. فقام أبو سعيدٍ، فقال: كنَّا نؤمر بهذا. فقال عمر: خفي عليَّ هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ألهاني عنه الصَّفق بالأسواق، يعني: الخروج إِلى التِّجارة (يوسف،1997،ص62).

وجاء في رواية أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال: كنت في مجلسٍ من مجالس الأنصار؛ إِذ جاء أبو موسى كأنَّه مذعورٌ، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً، فلم يؤذن لي، فرجعت، فقال: ما منعك ؟ قلت: استأذنت ثلاثاً، فلم يؤذن لي، فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له، فليرجع ». فقال: والله لتقيمنَّ عليه بينة ! أمنكم أحدٌ سمعه من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبيُّ بن كعب: والله لا يقوم معك إِلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فقمت معه، فأخبرت عمر: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك.

ـ مذاكرة عمر للعلم وسؤاله عمَّا يجهل:

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: أتى عمر بامرأةٍ تَشِمُ، فقام، فقال: أنشدكم بالله! من سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الوشم ؟ فقال أبو هريرة: فقمت، فقلت: يا أمير المؤمنين ! أنا سمعت، قال: ما سمعت؟ قال: سمعت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تَشِمْنَ، ولا تَسْتَوْشِمْنَ».

وعن المغيرة بن شعبة عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنَّه قال: استشارهم في إِملاص المرأة، فقال المغيرة: قضى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالغرَّة عبدٍ، أو أمةٍ. قال: ائت من يشهد معك، فشهد محمَّد بن مسلمة: أنَّه شهد النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قضى به. وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ: أنَّه سُئِل عن الرَّجل يُجْنِبُ فِي السَّفر، فلا يجد الماء ؟ فقال: لا يصلِّي حتَّى يجد الماء، فقال له عمَّار: يا أمير المؤمنين ! أما تذكر إِذ كنتُ أنا، وأنت في الإِبل، فأجنبنا، فأمَّا أنا فتمرَّغت، كما تمرغ الدَّابة، وأمَّا أنت؛ فلم تصلِّ، فذكرتَ ذلك للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّما يكفيك هذا، وضرب بيديه الأرض، فمسح بهما وجهه، وكفَّيه ؟ فقال له عمر: اتَّق الله يا عمار ! فقال: إِن شئت لم أحدِّث به، فقال: بل نولِّيك من ذلك ما تولَّيت، فهذه سنَّةٌ شهدها عمر، ثمَّ نسيها حتَّى أفتى بخلافها، وذكَّره عمَّار، فلم يذكر، وهو لم يكذب عمَّاراً بل أمره أن يُحدِّث به.

من أقواله في الحثِّ على العلم:

قال رضي الله عنه: إِنَّ الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذُّنوب مثل جبال تهامة، فإِذا سمع العلم؛ خاف، ورجع، وتاب، فانصرف إِلى منزله؛ وليس عليه ذنبٌ، فلا تُفارقوا مجالس العلماء.

وقال رضي الله عنه: لا يكون الرَّجل عالماً حتَّى لا يحسد من فوقه، ولا يحقر من دونه ولا يأخذ على علمه أجراً.

وقال رضي الله عنه: تفقَّهوا قبل أن تُسَوَّدوا ـ أي: تصيروا سادة قومكم ـ فتمنعكم الأنفة من التَّعلم، فتعيشوا جُهَّالاً.

وقال رضي الله عنه: العلم إِن لم ينفعك؛ لم يضرَّك.(ابن تيمية،1997،ج20، ص135).

وقال رضي الله عنه: موت ألف عابدٍ أهون من موت عالمٍ بصيرٍ بحلال الله، وحرامه.

وقال رضي الله عنه: كونوا أوعية الكتاب، وينابيع العلم، وسلوا الله رزق يومٍ بيومٍ، ولا يضرُّكم أَلا يُكثَر لكم.

وقال رضي الله عنه: تعلَّموا العلم، وعلِّموه النَّاس، وتعلَّموا الوقار، والسَّكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه العلم، وتواضعوا لمن علَّمتموه العلم، ولا تكونوا من جبابرة العلماء، فلا يقوم علمكم بجهلكم.

وحذَّر رضي الله عنه من زلَّة العالم، فقال: يهدم الإِسلامَ زلَّةُ عالم، وجدالُ منافقٍ بالقران، وأئمَّةٌ مضلُّون.(الجاحظ،1968، ج2، ص303).

مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، عمر ابن الخطاب، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، 1424ه-2003صص210-214

محمَّد السَّيِّد محمَّد يوسف، التَّمكين للأمَّة الإِسلاميَّة في ضوء القران الكريم، دار السَّلام، مصر، الطَّبعة الأولى 1418هـ  1997م.

قاسم عاشور، فرائد الكلام للخلفاء الكرام، دار طويق السُّعودية، الطَّبعة الأولى 1419هـ  1998م.

ابن تيمية مجموعة الفتاوى، دار الوفاء بالمنصورة، مكتبة العبيكان بالرِّياض، الطَّبعة الأولى، 1418هـ  م.1997

الجاحظ، البيان والتَّبيين، دار الخانجي بمصر، 1388هـ  1968م.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا