بيانُ حكمٍ شرعي بخصوص تحشيد القوات حول «مدينة درنة» - عين ليبيا
من إعداد: د. ونيس المبروك
إلى كل أهلي في داخل البلاد وخارجها:
إن واجب الأخوة الإسلامية والرابطة الوطنية التي تجمعنا، يوجب علينا النصح الصادق دون خوف ووجل، وبيان الحكم الشرعي دون غش ودغل.
أقول لكم بلسان الأخ الناصح، وبقلب الحريص المحب: إنه يحرم شرعاً -دون أي خلاف بين الفقهاء المعتبرين- رفع السلاح على المسلمين إذا تحصنوا بمدينة من المدن ولم يبدأوا جيرانهم بقتال ، كما يحرم ترويعهم وتجويعهم ومنع المعونات عنهم لأسباب سياسية ، أوتحت أي شعار من الشعارات وقتل المسلمين على هذا النحو هو من أكبر الكبائر ومن السبع الموبقات التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحمل الإثم ، ويشترك في هذه الجريمة شراكة ” تامة ” كل من حرض على دمائهم وأعراضهم وأموالهم ولو بإشارة أو شِق كلمة ، سواء كانت مكتوبة أو مسموعة ، أو شارك في صناعة قرارسياسي أو أمر عسكري ،في سر أو علن ،أو سكت عن دفع الظلم والقتل وهو مستطيع غير ُمكره ويحرم على أي مسلم سواء كان عسكرياً أو مدنياً ؛طاعة الأوامر العسكرية التي تأمره بقتل أخيه المسلم بغير حق ، ولو صدرت من سلطة مدنية منتخبة ، ولا يجوز طاعة أي مخلوق على وجه الأرض في ارتكاب هذه الكبيرة.
وفي حال حدوث الإكراه فيجب على الجندي محاولة تجنب القتال المباشر بكل الوسائل والطرق ؛ فقد أوجب الله تعالى لقاتل المسلمين بغير حق ، خمس عقوبات عظيمة ، فقال تعالى في محكم كتابه الكريم “ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ” ،كما توعد من يقتل النفس التي حرم الله ، بمضاعفة العذاب والخلود في جهنم ُمهاناً ،ما لم يتب ، فقال تعالى ” وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ” ، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من انتهاك حرمات المسلم فقال “كل المسلم على المسلم حرام ؛ماله وعرضه ودمه…” وقال ُ صلى الله عليه وسلم: ” لايزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ نفساً حراماً” ، ولهذا اعتبر سيدنا عبد الله بن عمر المشاركة في سفك دم المسلم من المعضلات التي لا حل لها ، فقال فيما رواه البخاري عنه “إنَّ من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حلة”
ولا يُعفي المسلمَ من المسؤولية وجودُ فتاوى شاذة متطرفة تبيح ذلك ، أو إعلام فاسد يُزين هذه الجريمة ويبررها ،كما لا يصح الاعتذار بالنوايا والمقاصد ولو كانت حسنة ، لأن تصحيح العمل الفاسد الذي قام الدليل على تحريمه، بالنية الحسنة هو من أوسع مسالك الضلال المبين، وتمييع لأحكام الدين ، ونشر للفوضى في المعايير والموازين ، فقد يزني الزاني، ويسرق السارق، ويقتل القاتل ،…وهو يحمل في صدره النوايا الحسنة ، أو يقصد من فعله تحقيق مصالح ظاهرة موهومة ، وقد يبطش الفرعون المتأله بنبي من أولي العزم وحجته في ذلك الحفاظ على الدين والخوف من الفساد ” إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ “!!
كما أن اقتصار تصحيح الأعمال الظاهرة ، بمجرد النوايا الباطنة الخفية ، هو من أخطر المذاهب والأفكار الدينية الهدامة ، التي تُهمل الأخذَ والمؤاخذة بظاهر أعمال المكلفين ، وتجعل مقياس الصلاح والفساد ، أو الحسن والقبح في الحياة الدنيا ، هو النوايا الخفية دون المحاسبة على ظاهر الأعمال المخالفة لمقتضى الأدلة الشرعية البينة .ولهذا استقر رأي أهل السنة في ضرورة الحكم ومعاملة الناس بظاهر أعمالهم في الدنيا ، و عدم الجزم والقطع بدخول الجنة أو النار لأحد في الآخرة .
كما أوصي الآباء والأمهات ، والأخوات والزوجات ،من ذوي الأصول العريقة الطيبة ، ومن ذوي الأحساب الأصيلة ، أن ينهوا أولادهم أو إخوانهم وأزواجهم ، وذوي أرحامهم من المشاركة في هذه الجرائم السياسية الدموية ،ويمنعونهم منها ، ولا يجاملوا في هذا الحق أحدا ، فإن هول يوم القيامة يجعل المرء يفر من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ، وسيتبرأ الأتباعُ من المتبوعين ، وسنُبعث جميعا كما أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام : حفاةً عراةً غرلا ، ولن يغني عنا يومها لا برلمان أوصولجان ، ولن يمنع عنا العذاب يومها مُشير ولا وزير ، ….”يَوْمَئِذٍۢ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ”
وإني في هذا البيان أتبرأ من كل داع لسفك الدماء تحت أي ذريعة كانت ، وأدعو العقلاء والشجعان من قبائل برقة الأبية، إلى تقديم مبادرة سريعة وشجاعة إلى وقف الحرب ، ومنع التحشيد لها عسكريا وإعلاميا ، والسعي في الوفاق وحقن الدماء، وتشكيل لجنة من أعيان القبائل ومن العلماء والفضلاء من داخل درنة وخارجها لوضع حل لهذه الأزمة بعيدا عن لغة القتل، واستباحة الحرمات ، والعبث بدماء النساء والأطفال والشيوخ ، ودمار المنشآت ، وتغذية الثارات ، التي ستدخلنا في مستنقع من الحروب التي لن تنته .وستعود علينا جميعا بالضرر والفساد في ديننا ، ودنيانا، …وها نحن اليوم نقف على أطلال حرب سابقة، ونرى بأعيننا ماذا تركت من آثار سيئة على الناس والعمران، وثارات عميقة بين الأهل والإخوان.
وأدعوا كل الدوائر السياسية من برلمان أو مجلس رئاسي أو حكومة وفاق من موقف وبيان واضح لا لبس فيه حول هذا الأمر قبل وقوعه.
كما أتمنى على المدافعين عن المدينة ، أن لا يترددوا لحظة واحدة في الاستجابة لأي دعوة ، أو مبادرة تحقن دماءهم ودماء الناس ، وتحمي ديارهم ، مهما غلا الثمن ، أواتسعت رقعة التنازل الآمن، فإن ديننا الحنيف سمى الصلحَ فتحاً ، وعد التنازلَ عن بعض الحقوق سمواً وسيادة ،… ولو أدى ذلك لخروجهم آمنين من المدينة.
اللهم إن هذه حرب، تخالف تعاليم الدين، وتفسد ذات البين ،وتقطع الأرحام، وتمزق ما تبقى من وحدة المسلمين، وتعيث في الأرض فسادا، وتغرس في النفوس أحقادا، وتبدد مقدرات البلاد ، وتهدر حياة العباد، وتربي في نفوس الشباب الضغائن والبغضاء، وتحقق مقاصد مرضى النفوس و الأعداء، وتغضب رب الأرض والسماء، اللهم أحقن دماء المسلمين، واصلح ذات بينهم، وخذ على يد كل متكبر جبار، واصرف عنا كيد ومكر الأعداء ، واحفظ ليبيا وكل المسلمين فيها من كل سوء يا لطيف يا خبير.
جميع الحقوق محفوظة © 2025 عين ليبيا