بين الخليج ومقديشو.. احتواء التوتر وصناعة فرص جديدة - عين ليبيا
من إعداد: عبد الله محمد الفارح
يقع الصومال عند تقاطع جغرافي استراتيجي فريد، يربط بين الخليج العربي والقرن الإفريقي، ويطل على واحد من أكثر الممرات البحرية حساسية وخطورة في العالم. وإن هذا الموقع، الذي كان تاريخياً مصدر قوة تجارية، تحوّل خلال العقود الأخيرة إلى عامل جذب للتنافس الإقليمي والدولي، لا سيما مع تصاعد الحضور الخليجي في شرق إفريقيا. غير أن التحدي الحقيقي لا يكمن في هذا التنافس بحد ذاته، بل في كيفية إدارة الدولة الصومالية له، وتحويله من عبء سياسي وأمني إلى فرصة لبناء الاستقرار والتنمية.
شهد الحضور الخليجي في الصومال تصاعداً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، متجسداً في مشاريع موانئ، ومشروعات زراعية وتجارية، ومبادرات إنسانية، وتعاون أمني، واستثمارات مباشرة. وهذا الحضور لم يأتِ في فراغ، بل تزامن مع اشتداد التنافس الإقليمي في شرق إفريقيا، ومع بحث دول الخليج عن عمق استراتيجي يحمي مصالحها التجارية والأمنية. وفي المقابل، وجد الصومال نفسه أمام واقع معقّد؛ شركاء متعددون، ومصالح متداخلة، ودولة ما تزال في طور إعادة بناء مؤسساتها.
وفي السياق الدولي، تُظهر تجارب الدول الهشّة أن التنافس الخارجي يصبح خطراً حين تُدار السياسة الخارجية بردود أفعال ظرفية، أو حين تُختزل في الاصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك. ففي الحالة الصومالية، لم يكن التنافس الخليجي بحد ذاته هو مصدر الاضطراب، بل غياب إطار وطني جامع لإدارته، وهو ما سمح بانعكاس الاستقطابات الإقليمية على الداخل السياسي والمؤسسي. وتشير تقارير تحليلية متخصصة إلى أن هذا النمط من التفاعل، حين يقترن بضعف مؤسسات الدولة وتعدد مراكز القرار، يحوّل التنافس الخارجي إلى عامل تفكيك بدلاً من أن يكون رافعة دعم وبناء للدولة(International Crisis Group, 2018). ومع ذلك، فإن هذا التنافس في الحالة الصومالية يحمل في طياته إمكانات كبيرة، إذا ما أُعيد ضبطه ضمن رؤية وطنية تضع مصلحة الصومال فوق اعتبارات الاصطفاف الإقليمي والدولي.
في بيئة إقليمية مشحونة، يبدو الحياد الإيجابي خياراً عقلانياً للصومال، بوصفه أداةً نشطةً لإدارة العلاقات الخارجية. فالحياد هنا يعني رفض الانجرار إلى صراعات والخوض في مشاكل الآخرين، مع الحفاظ في الوقت نفسه على قنوات تعاون مفتوحة مع كل الأطراف دون استثناء. وبالتالي، هذا النهج يمنح مقديشو مساحة حركة أوسع، ويخفف من كرهانها على طرف واحد قد تتغير أولوياته بتغير السياقات الدولية.
الأهم من ذلك، أن الحياد الإيجابي يفتح الباب أمام صناعة المصالح المشتركة. فبدلاً من أن يكون الصومال ميداناً للتنافس، يمكنه أن يصبح منصة تعاون، تربط بين رؤوس الأموال الخليجية وحاجات التنمية المحلية. هذا التحول يتطلب ربط أي شراكة خارجية بأهداف واضحة؛ خلق فرص عمل، تطوير البنية التحتية، وتعزيز الإيرادات الوطنية. وحين تصبح المصالح متشابكة، يقل منسوب التوتر السياسي تلقائياً، لأن كلفة التصعيد تصبح أعلى على جميع الأطراف. وبهذا المعنى، لا يعود الصومال مجرد متلقٍ للتأثيرات الإقليمية، وإنما يغدو فاعلاً قادراً على إعادة تشكيلها في حدود مصالحه السيادية.
يمتلك الصومال عناصر قوة اقتصادية وأمنية يمكن أن تشكّل أساساً لإعادة ضبط علاقاته الخليجية. فموانئه، وسواحله الطويلة، وموارده غير المستَغلة، تمنحه موقعاً تفاوضياً مهماً إذا ما أُحسن توظيفه. وإدماج الاستثمارات الخليجية ضمن خطط وطنية شاملة بدل مشاريع منفصلة، يساهم في بناء اقتصاد أكثر تماسكاً، ويَحد من تحوّل الاقتصاد إلى أداة نفوذ أمني وسياسي.
وأما في الجانب الأمني، يبرز تحدي آخر لا يقل أهمية. فالدعم الخارجي في مكافحة الإرهاب وأمن السواحل ضروري، لكنه يصبح عبئاً إذا أُدير بشكل مجزأ أو خارج الإطار المؤسسي للدولة. والمطلوب هنا هو مأسسة التعاون الأمني، بحيث يمر عبر الحكومة الفدرالية، ويخضع لاستراتيجية أمن وطني واضحة، تمنع تضارب الأدوار وتعدد مراكز القرار. وإن هذا الربط بين الاقتصاد والأمن ضمن رؤية واحدة، يسمح للصومال بتحويل الشراكات الخليجية من تدخلات ظرفية إلى علاقات مستقرة تخدم بناء الدولة على المدى القصير والبعيد.
وهكذا، يقف الصومال اليوم أمام لحظة مفصلية؛ إما أن يبقى ساحة مفتوحة لتنافس إقليمي متقلب، أو أن يعيد تعريف دوره كفاعل يمتلك رؤية ومصلحة. واحتواء التوتر بين الخليج ومقديشو لا يعني تجاهل الخلافات، بل إدارتها بعقلانية، وتحويلها إلى فرص عبر بناء مصالح مشتركة ومستدامة. هذا المسار يتطلب وضوحاً في القرار، وتماسكاً داخلياً، وقدرة على الربط بين السياسة الخارجية وأهداف التنمية والأمن. التجارب المقارنة تؤكد أن الدول التي تنجح في ذلك، حتى في أكثر البيئات هشاشة، تكون الأقدر على تثبيت استقرارها واستعادة سيادتها. وبين الخليج ومقديشو، ما يزال الباب مفتوحاً أمام خيار ثالث: شراكة متوازنة تحوّل الجغرافيا من عبء تاريخي إلى رافعة مستقبلية.
المراجع:
International Crisis Group. (2018). Gulf and the Horn: How the new regional rivalry is reshaping the Horn of Africa. Brussels: International Crisis Group.
جميع الحقوق محفوظة © 2025 عين ليبيا