تسويق الزيف.. جدلية الشرعية (2) - عين ليبيا

من إعداد: د. أحمد معيوف

الدرس المستفاد هنا، إن شرعية نظام ما عند حدوث أزمات أو انعطافات في تاريخ الدول لا يتحدد بالبعد المحلي فقط، بل يقرره وربما يفرضه النظام الدولي، إما بالقوة كما حدث في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية وخسارتهما الحرب، فكلتا الدولتين رضختا لإملاءات أمريكا، بل تجاوز الأمر أن قامت أمريكا بالإشراف على صياغة دستور الدولتين، أو عن طريق رسم توافقات تؤسس لنظام يقوم بتسيير أمور الدول الخارجة من آزماتها، كما حدث في أفغانستان والعراق وجمهوريات يوغسلافيا السابقة.

وككل اتفاق إنساني، فإن الاتفاقيات لا تحل كل الإشكاليات، كما إنها لا تلبي كل مطالب الخصوم.

لذلك حينما عرض على البرلمان لىعتماده وتضمينه الدستور المؤقت، لجئ بعض أعضاء البرلمان في اشتراط الموافقة عليه وتمريره، أن يتم الموافقة على قبوله إذا تم قبول تحفظ باقي الأعضاء على أحد مواده، وهي المادة الثامنة.

وربما كان البند المستهدف هو الفقرة الأولى من البند الثاني، الذي يمنح رئيس المجلس الرئاسي مهام القائد الأعلى للجيش، وبالتالي ينازع البرلمان هذا الاستحقاق، والذي ربما يعمل على تقويض سيطرة الجيش على الجسم التشريعي.

ثم الموافقة على الاتفاق في يناير 2016، لكنه لم يضمن في الدستور المؤقت الذي قد يتحجج به في شرعيته، كما رفض البرلمان منح الثقة للحكومتين اللاتين تقدم بهما رئيس المجلس.

وبهذه الجلسة انتهت تقريبا علاقة الأجسام المنبثقة عن الاتفاق ببعضها البعض، واُدخِلت الدولة في حكم سياسة الـمر الواقع وشرعية الأمر الواقع، فأصبحت تدار المنطقة الشرقية بحكومة مؤقته وبرلمان هزيل يزدد تشردم يوما بعد يوم، وتحت سلطة عسكرية قاهرة يمارسها القائد العام للجيش الذي عين في منتصف العام 2015 من قِبل البرلمان، ومنحت الشرعية لقواته التي كونها في غياب الدولة وضعف مؤسساتها.

بالمقابل، تم تمكين المجلس الرئاسي تحت غطاء الأمم المتحدة ومجلس الأمن من السيطرة على العاصمة والمدن الموالية له، وعلى المؤسسات السيادية التي تتحكم في مفاصل الاقتصاد ومداخيل البلد، فأصبحت ليبيا رهينة النفوذ المالي الذي تديره حكومة الوفاق والمليشيات التي تبتز الحكومة مقابل حمايتها، والنفوذ العسكري الذي يمارسه الجيش بقيادة حفتر على البرلمان والحكومة المؤقتة وقبائل الشرق الليبي.

تدخلت بعض الدول لتزيد لهيب الخصام السياسي وساعدت على إشعاله لتحقيق مصالح معينه، وكان في مقدمة الدول التي تدخلت في الملف الليبي وبحكم الجوار هي دولة مصر التي جمعت بين السراج باعتباره رئيسا للمجلس الرئاسي (بمثابة رئيس الدولة ورئيس الجهاز التنفيذي) وبين حفتر باعتباره القائد العام للجيش الليبي، ولعل خطورة الأمر في هذا الاجتماع وفي المحاولات اللاحقة من الإمارت وفرنسا وأخيرا إيطاليا أنها حصرت الأزمة الليبية في شخصين فقط، والأمر الثاني أنها استبعدت دور البرلمان ومجلس الدولة اللذين دار حولهما وبسببهما الاتفاق وادخل عنصر آخر لا مكان له فيه، وبالتالي أصبح الجيش تحت قيادة حفتر عنصر في الخلاف لا يتضمنه الاتفاق، وله وجهة نظر أحادية في حل المشكل الليبي لا يتفق فيها معه جل الليبيين في تقديري (رغم تحفظي على استخدام عبارة جل الليبيين)، وكذلك تقدير الكثير من المهتمين بالشأن الليبي.

الغطاء الذي منحته الدول التي راعت لقاء حفتر- السراج، مكنت حفتر من أن ينال شرعية أعماله القتالية (وغض الطرف عنها، بل وتشجيعها أحيانا) دون الرجوع إلى مؤسسات الدولة “الشرعية”، فلا نعلم أن البرلمان الليبي قد اجتمع لمناقشة هذه القضايا، أو أنه تمكن من مساءلة قيادة الجيش على أعمالها، باستثناء حالة واحدة تم فيها استدعاء المشير حفتر إلى المساءلة في البرلمان فامتنع عن الحضور، متناسيا أن شرعيته جاءت من البرلمان الذي عينه، وعجز البرلمان على أحضاره ومسائلته.

إلا أن مركزه الآن، وبعد تنامي الحجم الدولي له، جعله سيد للبرلمان وليس معينا من قبله.

لقد ساهم حفتر والانقسام في البرلمان إلى إنهاء الدور الفعلي للبرلمان، ولم يعد البرلمان يمثل الليبيين، بل هو أداة يستخدم فيها حفتر من بقى فيه من أعضاء لتحقيق مأربه السياسية، وقد نجح في تطويع بعض أعضائه تماما وأنهى دوره كبرلمان يمثل الليبيين كليا، فانقسم البرلمان إلى غرفتين أحداهما في طرابلس مناهضة للحرب والأخرى في طبرق تدافع عن ضرورة الحرب، وطبعا هناك العديد من البرلمانيين يقفون في المنطقة الرمادية.

لهذا يعتبر العديد من المتابعين للشأن الليبي بأن الحرب على طرابلس هي انقلاب عسكري مكتمل الشروط يرجى منه الوصول إلى السلطة ولا علاقة له بمحاربة الإرهاب كما يسوق له، ابتدأ بالهيمنة على البرلمان، ثم بحشد بعض الدول الداعمة لمشروع الانقلاب، وأخيرا الانقضاض على العاصمة.

لا زلت أؤمن بأن الليبيين غير قادرين على الجلوس معا دون ضغط دولي، وقد كتبت في هذا الشأن مقال عن التوافق الليبي في منتصف العام 2016، واعتبرت التوافق الليبي هو بمثابة المستحيل الرابع الذي يضاف إلى مستحيلات صفي الدين الحلي الثلاثة، ولا زلت أؤمن بذلك.

والحرب لن تُنهي أزمة ليبيا، بل ربما تحولها إلى سوريا أخرى. وحتى إن كسب أحد الطرفين الحرب فإنها لا تحسم كل الصراع، ناهيك عن العمليات الانتقامية التي سيقودها الجسم المنتصر.

لذلك فإن أنجع الحلول للأزمة الليبية هي إيقاف القتال، ورسم منطقة عازلة بين القوى المتقاتلة، وجمع البرلمان في إحدى المدن التي لا تخضع لسلطة الخصوم لبحث الملفات الليبية الشائكة كالحرب والاتفاقات الدولية والدستور والانتخابات.

وطبعا، ليس من السذاجة أن نعتقد بأن الخصوم سيقبلون بما ينتج عن اجتماع البرلمان دون ضغط دولي يفرض سيطرته على تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، وتنتهي بذلك جدلية الشرعية التي يدعيها الجميع ولا يملكها أي منهم.



جميع الحقوق محفوظة © 2024 عين ليبيا